في الوقت الذي ينشغل فيه العرب والعالم بالحرب التي تشنّها اسرائيل على لبنان، يشهد الشرق الاوسط والمنطقة القريبة منه، خصوصاً القرن الافريقي احداثاً في منتهى الخطورة. هناك حالياً ثلاث ازمات اقليمية، في اقلّ تقدير، تحجبها الحرب الاسرائيلية على لبنان. مسرح هذه الازمات.. العراق وفلسطين والصومال حيث بدا التدخل العسكري الاثيوبي ياخذ بعداً جديداً. في العراق تزداد الحرب الداخلية شراسة، وبات القتل على الهويّة المذهبية امرا روتينياً. وتبيّن ان حكومة السيّد نوري المالكي تحوّلت الى شاهد، لا اكثر، على الحرب الاهلية وعلى عمليات التطهير التي ارتدت طابعاً مذهبياً في بغداد وخارج بغداد. تقول صحيفة «نيويورك تايمز» في تحقيق من العاصمة العراقية نشر يوم الجمعة الماضي ان احد الاحياء المختلطة في بغداد صار خالياً من الشيعة الذين طُردوا منه. كان في الحيّ احد عشر فرناً. لم يبق فيه سوى فرن واحد صاحبه سنّي من آل العبيدي. جميع اصحاب الافران الاخرى هُجّروا من منطلق انّهم شيعة..لا يشكّل ما نشرته الصحيفة الاميركية سوى النذر القليل من الفظاعات التي ترتكب في العراق بما في ذلك التغلغل العميق لتنظيمات ارهابية من فصيلة «القاعدة»، وما شابه «القاعدة» من تخلف، في الاحياء السنّية للعاصمة وسيطرتها عليها. ويُظهر تحقيق آخر نشرته حديثاً صحيفة «لوموند» الفرنسية انه صار لكلّ حي سنّي اميره الذي يُعتبر الآمر والناهي في الحيّ. وفي امرة «الامير» عشرات المسلّحين المقنّعين الذين يختفون لدى ظهور قوات الامن ثم يظهرون بمجرّد خروجها من الحيّ. احد الامراء منع بيع الفلافل في الحيّ بحجة انّه لم تكن هناك فلافل في ايام الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ربما نسي «امير» الحيّ الذي يحمل رشّاشا انه لم تكن هناك رشاشات في تلك الايام. وهذا ما لا يستطيع ان يقوله: بائع الفلافل المسكين! في المقابل، تحدّث احد الذين وصلوا الى لندن من بغداد قبل ايام عن وجود مسلّح مماثل في الاحياء ذات الاكثرية الشيعية. وفي احد هذه الاحياء، يعمل «ابو ردع» الذي يسعى الى الحصول يومياً على لائحة بعدد الشيعة الذين قتلوا في المواجهات مع السنّة قبل ان يامر رجاله بقتل عدد مماثل من السنّة من دون زيادة او نقصان...بالطبع، ان عدد السنّة الذين يُقتلون اكبر بكثير من الرقم الذي يزوّد به «ابو ردع»، وذلك بفضل الميليشيات التابعة لاحزاب شيعية مشاركة في السلطة! هذا هو المشهد العراقي في ايّامنا هذه. انّه مشهد يدلّ على مدى فشل السياسة الاميركية في العراق، اللهمّ الاّ اذا كان المطلوب اصلاً التاسيس لحرب اهلية تقود في نهاية المطاف الى تقسيم البلد. لا تفسير آخر غير هذا التفسير لما اقدم عليه الاميركيون الذين بدا همّهم الوحيد محصورا، منذ اسقاط نظام صدّام حسين العائلي- البعثي، ً في اثارة الغرائز، كلّ انواع الغرائز، خصوصاً المذهبَّة منها، عبر الاستماع الى نصائح اشخاص مثل الدكتور احمد الجلبي الذي يمكن ان يكون خبيراً في كلّ شيء ورجل اعمال ناجحاً، من دون ان يعني ذلك انّه يعرف شيئاً عن العراق او عن كيفية المحافظة على وحدة العراق. .في ضوء ما يشهده لبنان من فضاعات، ينسى المواطن العربي فلسطين. وينسى اوّلاً انّ ليس ما يدلّ على ان الوضع يمكن ان يتحسّن هناك، خصوصاً ان حكومة اسرائيل برئاسة ايهود اولمرت تبدو مستعدّة للذهاب بعيداً في تنفيذ مشروع رسم حدود الدولة اليهودية من جانب واحد عن طريق اتمام بناء «الجدار الامني». هذا الجدار الذي يكرّس الاحتلال لقسم لا باس به من الضفّة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية ويحول عملياً دون اقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وتستفيد الحكومة الاسرائيلية الى ابعد حدّ من وصول «حماس» الى السلطة واصرارها على رفض التفاوض مع اسرائيل. ما دام في الجانب الفلسطيني من يدعم النظرية القائلة الا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه والتي هي في اساس سياسة حكومة اولمرت، ما الذي يمنع استغلال هذه الفرصة التي لا تعوّض اسرائيلياً وان تستمرّ الآلة العسكرية الاسرائيلية في عملية التدمير المبرمجة التي تمارسها يومياً في الاراضي الفلسطينية؟ لا يمكن للوضع الفلسطيني ان يتحسّن ما دامت هناك رغبة واضحة لدى قوى اقليمية معيّنة في استخدام الشعب الفلسطيني وقوداً في حروب لا علاقة له بها. ما يبدو الوضع الفلسطيني مقبلاً عليه هو مزيد من الفوضى على الرغم من كلّ ما يقال عن اتفاقات بين «فتح» و «حماس». وحده البرنامج السياسي الواضح والواقعي يمكن ان يخرج الوضع الفلسطيني من المازق الذي يعاني منه كما يمكن ان يعيد بعض الامل للفلسطينيين بان مشروع الدولتين لم يمت... كلّ ما عدا ذلك، في ظلّ استمرار «حماس» في حال تجاذب بين الخارج والداخل، سيقود عاجلاً ام آجلاً الى حرب اهليّة فلسطينية او الى مزيد من الاهتراء للوضع الفلسطيني بما يسهّل مهمة حكومة اولمرت التي تتابع بناء الجدار بهدف فرض امر واقع جديد في المنطقة. يفترض في حرب لبنان الاّ تحجب ايضاً ما يدور في الصومال البلد الذي يعيش منذ العام 1992 من دون حكومة مركزية والذي لم يعد منذ ذلك التاريخ دولة. جديد الصومال ان تنظيماً يسمّي نفسه «المحاكم الاسلامية» ولا يشبه سوى «طالبان» بدا يسيطر على البلد. لم تجد اثيوبيا التي لا تستطيع قبول نظام من هذا النوع على حدودها خياراً آخر غير التدخل العسكري. تفعل ذلك تحت ذريعة حماية الحكومة الشرعية في البلد. والاكيد ان اثيوبيا التي سبق لها الدخول في نزاع مسلّح مع الصومال بسبب اقليم اوغادين في السبعينات من القرن الماضي، ستستغل الوضع الجديد في القرن الافريقي، وهو وضع ناشئ عن ظهور نواة لنظام متزمّت في هذا البلد، كي تفرض خريطة سياسية وحتى جغرافية جديدة في القرن الافريقي. ستفعل اثيوبيا ذلك تحت غطاء دولي وفي سياق ما يسمّى الحرب الدولية على الارهاب كي تُبلغ «المحاكم الاسلامية» انّها مخيّرة بين تدخل عسكري اثيوبي على نطاق واسع من جهة وبين الدخول في مفاوضات جدّية مع حكومة عبدالله يوسف، وهي حكومة انتقالية تلقى دعم اديس ابابا من جهة اخرى. ما تحجبه حرب لبنان حقيقة يتمثّل في ان خريطة المنطقة كلّها تتغيّر. الخريطة السياسية والخريطة الجغرافية للشرق الاوسط والمنطقة المحيطة به... من العراق المطلّ على الخليج الى القرن الافريقي حيث ليس طبيعياً ان تكون القوة الاهمّ في معركة مواجهة الارهاب، اي اثيوبيا، من دون منفذ على البحر الاحمر. كلّ ما يمكن قوله: ان لبنان زُجّ به عنوة في عملية التغيير هذه من منطلق انّه لبنان- الساحة، لبنان الذي يُستخدم في تصفية الحسابات مع هذه القوة او تلك او في حماية المشروع النووي الايراني او في اقناع الادارة الاميركية بانّ من مصلحتها فتح قنوات حوار مع النظام السوري. صحيح انّ في الامكان استخدام لبنان لتحقيق هذا الغرض او ذاك وكي يظلّ الدولة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك الحكومة الشرعية فيها قرار الحرب والسلم بسبب وجود ميليشيات مسلّحة تخترع حججاً واهية كي تسمّي نفسها مقاومة. لكنّ الصحيح ايضاً ان الرهان على لبنان- الساحة يمكن ان يرتدّ على المراهنين. انّهم اولئك الذين يعتقدون ان في الامكان ابتزاز الآخرين من عرب وغير عرب عبر لبنان. هؤلاء قد يكتشفون ان هذه اللعبة سترتد عليهم وانّ ذلك بدا فعلاً. قد يحجب الحدث اللبناني اموراً كثيرة تشهدها المنطقة بما في ذلك الحرب الاهلية في العراق، التي بدات تظهر انعاكاساتها على كلّ الدول المجاورة لاحد اهمّ بلدان المنطقة. كذلك يحجب الحدث اللبناني خطرتهميش قضية العرب الاولى، اي القضية الفلسطينية. لكنّ ما لا يمكن ان تحجبه الحرب الهمجية التي تشنّها اسرائيل على لبنان ان البلد الصغير اقوى بكثير مما يُعتقد وانه قد يخرج من الحرب اقوى مما كان بكثير. ربما سيكتشف الذين اعتقدوا باستمرار ان لبنان- الساحة مفيد لهم صار مصدر خطر على اللاعبين الاقليميين. عندئذٍ لن يكون ضرراً من ان يرتفع لبنان الى مستوى الوطنية السورية. وبكلام اوضح، سيجد الذين يزايدون على لبنان من الناحية الوطنية ان من مصلحتهم ان تكون في جنوب لبنان ترتيبات امنية مشابهة لتلك التي في الجولان... مع فارق ان اسرائيل انسحبت من الجنوب اللبناني، فيما لم تطلق رصاصة في الجولان منذ العام 1974، تاريخ التوصل الى اتفاق فك الاشتباك مع اسرائيل والذي ترابط بموجبه قوة المراقبين الدولية في الاراضي السورية المحتلة وليس على الحدود بين البلدين!