نواصل استعراض المرشحين لحملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرر أن تتم أوائل الربيع المقبل والتي انطلقت بقوة منذ أوائل الخريف الماضي وكنا قد تحدثنا من قبل عن المرشحة الاشتراكية (سيغولين رويال) وعن الرئيس الفرنسي جاك شيراك وهنا حلقة أولى عن مرشح اليمين العنصري المتطرف (جان ماري لوبن) الذي حقق مفاجأة في الانتخابات الماضية عام 2002 عندما اجتاز عتبة الدورة الأولى ونافس شيراك في الدورة الثانية وقد حصل على أكثر من 20 بالمئة من الأصوات فمن هو لوبن؟للإجابة عن السؤال لا بد من العودة إلى الانتخابات المذكورة التي اهتزت أوروبا لوقائعها. لم يكن لدى الفرنسيين في العام 2002 ما يفخرون به في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية. فقد برهنوا أمام العالم اجمع أنهم لا يختلفون عن غيرهم من الدول الأوروبية التي سجل فيها اليمين المتطرف تقدماً هائلاً وصار يشكل جزءا لا يتجزأ من الخارطة السياسية الفرنسية وان شعروا بالخجل تلك الأيام, وعبَّر كثيرون منهم, خاصة الشبان, عن سوء تقدير للاختراق اليميني المتطرف بزعامة (جان ماري لوبن), فإنهم تظاهروا يومياً ووعدوا بغسل العار الذي لحق بهم وبالتالي التصويت بكثافة لجاك شيراك وتحجيم نسبة أصوات لوبن إلى الحد الأدنى الممكن في الدورة الثانية التي انعقدت في الخامس من مايو أيار من العام نفسه وهو ما حصل بالفعل فقد انتخب الرئيس الحالي بما يناهز ال80 بالمئة من الأصوات. علما أن الأصوات اليسارية التي حصل عليها المرشح الديغولي كان غرضها الاقتراع ضد لوبن وليس حباً بجاك شيراك. رغم ذلك ما برح ماثلاً الأذى المعنوي الذي أصاب الفرنسيين في 21 ابريل - نيسان 2002 . فهم الشعب الأوروبي الوحيد الذي منح حوالى ستة ملايين صوت لتيار عنصري شديد الرجعية, يحلم بماضي البلاد الكولونيالي ويتنكر لقيم التسامح والانفتاح والاندماج التي قام عليها المشروع الأوروبي. أضف إلى ذلك أن فرنسا هي البلد الذي يحتفظ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي لا يكف عن إعطاء دروس في هذا المجال لغيره من دول العالم. ومن بينها النمسا حيث تزعم الفرنسيون حملة لعزل فيينا بعد فوز حزب الأحرار النمساوي بزعامة (هايدر) بانتخابات تشريعية حينذاك. فإذا بهم في موقع من يحتاج إلى الدروس بدلاً من إلقائها. وإذا كان الشعور بالخجل إزاء تقدم (جان ماري لوبن) قد عمَّ أوروبا ودول العالم المتقدم وبعض العالم الثالث فان العالم العربي تعامل مع هذا الحدث, بقدر كبير من اللا اكتراث. ولعل تفسير ذلك يكمن في ضعف الاحاطة بطروحات اليمين المتطرف ولوبن من جهة, وبالعلاقات القوية التي أقامها مع عدد من المسؤولين في البلدان العربية وعلى رأسها العراق قبل الحرب وليبيا ولبنان والمغرب الأقصى بحجة عدائه لأمريكا. لا بل تشير بعض وجوه اللامبالاة إلى رضا ضمني من المعنيين باعتبار أنه زعيم صاعد يمكن الرهان عليه, وان صح ذلك فان شعورنا كعرب بالخجل لايكفي. وعلينا في هذه الحالة أن نشعر بالشفقة على مسؤولين تتسم مواقفهم بالسطحية والخفة. وحتى لا يبقى الشك حائماً حول هوية هذا المرشح المناهض للأجانب والمهاجرين العرب في بلاده و الذي يتخفى وراء طروحات ديماغوجية, فان التعريف به أصبح ضرورة ملحة. فمن هو إذن (جان ماري لوبن) الذي قال يوما إن العرب لم يقدموا شيئا للحضارة الإنسانية غير النوافذ الملونة ! انخرط (جان ماري لوبن) في العمل السياسي في فرنسا من أبوابه الواسعة. فقد انتخب صدفة نائبا في البرلمان الفرنسي عام 1955 وكان الأصغر سنا والأكثر جلبة. قبل انتخابه بشهرين لم يكن احد يعرفه, إذ كان عائدا لتوه من الهند الصينية حيث تطوع للمشاركة في معركة (ديان بيان فو) الشهيرة لكنه وصل بعد انتهاء القتال وكان عليه أن يرجع إلى بلاده بعد هزيمة الفرنسيين. قال حينها: انه اكتشف للمرة الأولى أهمية رجال السياسة في القرارات العسكرية وصمم على الانخراط في العمل السياسي. في هذا الوقت, كان بيار بوجاد رئيس اتحاد الدفاع عن التجار الصغار والحرفيين وزعيم اليمين المتطرف يحضر لخوض الانتخابات النيابية ويقول: «..كان كل مرشحينا من الحرفيين وكان عليَّ أن اجري تنويعا بينهم. فالتقيت لهذا الغرض السكرتير العام للمقاتلين القدماء وسألته: ألا يوجد لديك بعض الضباط الشبان المحنكين والذين يصلحون للانضمام إلى لوائحي. فقال: جئتني في اللحظة المناسبة. فقد استقبلت للتو ضابطين وصلا من الهند الصينية ويعلو اللهب من حديثهما عندما يتكلمان. هكذا تعرفت إلى جان ماري لوبن.» والكلام دائما للسيد بوجاد. ويضيف قائلا:«..في ذلك اليوم كان عليَّ أن احضر مهرجانا انتخابيا في الريف. فاصطحبت معي الضابطين (جان ماري لوبن) و(جان موريس دوماكيه) وجلسا إلى جانبي أمام آلاف المناصرين. ولم يكن مبرمجا أن يتكلم أي منهما. فخطرت لي الفكرة وقلت ل «لوبن»: هيا قم إلى المنصة وقل للناس: لماذا أنت معي في هذا المكان. لم يكن يعرف شيئا عن معركتي الانتخابية وبرنامجي. لكنه على الرغم من ذلك صعد إلى المنصة وألقى خطابا هذيانيا قارنني خلاله بجان دارك. فقلت في سري هذا الشخص لديه معدة بطريرك». ويتابع :«كان لوبن ودوماركيه سعيدين لانهما وجدا مكانا للنوم والأكل. وبعد شهرين صارا نائبين في البرلمان». قبل أن يصبح نائباً, عاش جان ماري لوبان طفولة صعبة. فقد ولد في العام 1928 في بلدة ترينيتي سور مير في مقاطعة البريتاني, وفي وسط اجتماعي مكون من البحارة والصيادين, يغلب عليه الطابع اليميني والقومي. والدته ابنة مزارع صغير ووالده وجده عملا في الصيد البحري وكانا كاثوليكيين متدينين إلى حد الجنون. وهو أيضاً تلقى تعليماً كاثوليكياً وكان عضواً في فرقة الإنشاد الكنسي المحلية ويطمح لأن يكون ضابطاً في البحرية في مهنة كانت حكراً على أبناء الطبقة الأرستقراطية. فقد جان ماري والده الذي قضى غرقاً في البحر وكان في سن الثانية عشرة فكفله جده. وفي سن السادسة عشرة فاجأته الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي لفرنسا. ويروي أنه شارك في المقاومة أواخر الحرب غير أن أحداً من المرجعيات لم يؤيد أقواله. ومن تجربة الحرب سيحقد على شارل ديغول الذي لم يرغب بالمصالحة مع الماريشال بيتان وسمح بالحرب الأهلية بين الفرنسيين على حد تعبيره. وسيزداد حقده على ديغول لأنه سمح أيضا باستقلال الجزائر. تربية لوبن الكاثوليكية المتزمتة ستشكل قناعاته إلى الأبد. لذا لن يغير مواقفه العدائية للشيوعيين منذ المراهقة حيث يقول :ٍِِ «كان الشيوعيون عندنا هم الناس الأقل اعتباراً والعمال الكسالى, والعاطلين عن العمل المحترفين, والمتخلفين عموما, وكانوا يصفون خصومهم السياسيين بالخونة. وأصبحوا ثأريين بعد الحرب». في التاسعة عشرة انتقل لوبن إلى باريس وقرر دراسة الحقوق. وعرف عنه حماسه في التعارك مع الشيوعيين بالأيدي. وتفيد روايات أنه فقد عينه اليسرى في إحدى جولات العراك. كما عرف عنه في هذه الفترة تعلقه بموسيقى الجاز وممارسة رياضة الركبي. لن يصبح لوبن محامياً ففي سن العشرين تطوع للقتال في الهند الصينية كما ذكرنا من قبل. وعمل في فرقة المظليين معتبرا أن «الفييت منه» يدعمون الشيوعيين الفرنسيين, وان معركته ضد الطرفين واحدة. في الهند الصينية علم أن مدربه العسكري في فرقة المظليين قتل في الجزائر, فتأثر بشدة واعتقد أن بلاده قد تخسر الجزائر كما خسرت أفريقيا السوداء, فقرر مع صديقه دوماكيه أن ينخرط في العمل السياسي للحؤول دون ذلك وقفز على العرض الأول الذي تلقاه من بيار بوجاد كما اشرنا أعلاه. mfjalloul|@hotmail.com