من يُمثّل الدين ؟ من هم مُمثلي الدين ؟ أيوجد هناك نموذج بشري فرديّ أو جماعيّ من شأننا أن نعتبره ممثلاً للدين؟ إذا كان من الخطأ أن نعتبر ممثلي الدين هم الفئة التي لا تحمل منه إلاّ اسمه ، إذاً هل يكون حينها الممثل للدين هو الحركات الإسلاميّة التي تدمج الدين بشفافيّته ، بالسياسة و الحزبيّة بصراعاتها ؟ أم هل يمثل الدين فئة العلماء الشرعيّين و أساتذة الشريعة على الرغم من الاحتماليّة الواردة لخطأهم مع أنّ الإسلام دين كامل؟ أليس من الجناية على الإسلام أن نبحث له عن ممثل في عصر الانحطاط ، لا سيّما مع امتطاء جلّ العالم الإسلاميّ و العربي صهوة الدين ؛ بسبب تداخله مع الثقافة المحافظة ، أو حتى بهدف اقتباس قداسته التي يضفيها على كلّ من يلبس عباءته ؟ من يُمثل الدين ؟ تساؤل قد لا يلقى جواباً جازماً أو متفق عليه ، لكنّه جدير بالاستطلاع و التفكير .. هل يُمثله رجال الدين ؟ يتفق كلّ من أستاذيّ الشريعة في الجامعة الأردنيّة ، الدكتور محمود السرطاوي و الدكتور محمد القضاة ، في وجهة نظر أنّ "رجال الدين الذين يتسلّحون بعلم شرعيّ موثق ، هم من يمثلون الدين".. ويفصّل القضاة قائلاً : " الأصل أن يُمثل الدين أولئك الذين يلتزمون الدين قولاً و فعلاً ، و من يوثقون ذلك بعلم شرعي صحيح ، و تظهر عليهم أمارات الصلاح و التقوى و الفكر المستنير ". و يضرب القضاة المثال على ذلك ب "هيئة الإفتاء المعتمدة من قِبل جميع المسلمين أو هيئة العلماء الأفاضل ". ويضيف : " من الخطأ أن نبحث عن التمثيل الحقيقيّ للدين في شخص كلّ من ادّعى أنه متديّن ، كما لا يصحّ أن نتمثل الدين في أيّ حركة إسلاميّة لأنّ مواقفها عادة ما تكون معلّبة و تتداخل فيها الحسابات السياسيّة و الحزبيّة ، ما يظلم الدين عند قياس هذه النماذج عليه ". ذات الأمر يشير إليه السرطاوي قائلاً : "حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، كان الناس يرجعون للفقهاء السبعة لتمثيل الدين ، كلُ في تخصصه المعروف به ". و يدلّلّ ب "السيّدة عائشة التي كانت تختصّ بالعبادات و الإفتاءات النسائيّة ، فيما زيد بن حارثة في حقل الفرائض ، و عبدالله بن عبّاس في التفسير ". ويؤكّد السرطاوي أنّ " ما من أحد يحيط بكلّ شيء علماً ؛ فحتى عمر بن الخطّاب بجلال قدره لم يكن من رواة الحديث ، و خالد بن الوليد كان مجال تخصصه في الحروب و ليس العلم الشرعيّ ". ويشير السرطاوي لكونه من الخطأ أن نعتبر صاحب المرجعيّة المتخصّصّة "لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه" ، بل علينا أن نضع في حسباننا " أنّ العلم و الاجتهاد البشريّ قابل للخطأ و الصواب ، و أنّ العلم الكامل هو في القرآن الكريم و كنه الله سبحانه و تعالى و ليس للبشر ". ويدعو السرطاوي لوجوب "طرح سؤال تمثيل الدين على كلا المنحيين ، الاجتماعيّ و الشرعيّ ، لأنّ وجود جواب قاطع و محدّدّ في هذه المسألة سيضع حداً لكلّ من أراد أن يدلي بدلوه فتتبعه العقليّات البسيطة ظانّة أنّ هذا هو الممثل الحقيقيّ للدين ". على الجانب الآخر ، فإنّ المفكّر و الكاتب الأردني إبراهيم غرايبة ، يرى أنّ "ما من أحد غير الله ثمّ الرسول صلى الله عليه و سلّم من شأنه تمثيل الدين أياً من كان ". بيد أنّ غرايبة يقرّ بأنّ " قوله السابق لا يعدو بالنسبة للكثيرين عن كونه نظريّاً " ، حيث أنّ من طبع البشر أن يربطوا "الناحية النظريّة بممثل لها من حياتهم اليوميّة لا سيّما إذا ما نادى بمبادئ الدين ، فيلتفّ الناس حوله معتقدين أنّه ممثل الدين ". ويرى غرايبة أنّه بالنسبة للغربيّين على سبيل المثال فإنّ " كلّ المسلمين يُمثلون الدين ، من رأس الهرم الدينيّ لأدناه ، تماماً كما نرى كمسلمين الغرب جميعه واحداً بأعراقه و أصوله و تنوّعاته المختلفة ". ويضرب غرايبة مثالاً عن العقليّات العربيّة البسيطة التي تتوق ل " الرمز الدينيّ " ، بقصّة ابنة مقرء القرآن المعروف محمود خليل الحصري ، حيث أنّ ابنته (إفراج) قد كانت مطربة ، غير أنّ الناس قد استقبلوها بالتهليل و التصفيق على إثر إعجابهم بوالدها الذي "مثل لهم رمزاً دينيّاً " ، فما كان منها إلاّ أن "ارتدت الحجاب بعدها و سلكت مسلك التديّن ". ويقرّ غرايبة أنّ الدين "يمتطى" في وطننا العربيّ لأغراض عدّة من بينها "فرض السلطة ، إسباغ الشرعيّة على شخص ما أو عمل ما ، تحريك الناس نحو الأعمال التنموية ، و لحشد الدعم و الصفوف في الحرب ". كما يشير غرايبة لحقيقة "تداخل الثقافة العربيّة بالدين " ، حيث أنّ الدين بالنسبة لنا "مورد ثقافيّ و اجتماعيّ رئيسيّ " ، كما أنّه يحتلّ "المرتبة العليا في هويّتنا الثقافيّة ، حتى لو لم يكن الفرد متديّناً " . بيد أنّ غرايبة يرى أنّه " امتثالاً لحقيقة أنّه ليس بإمكاننا تعطيل الوِرد من منهل الدين ، فعلى الأقل يجدر بنا أن لا نسيء استخدامه عند وردنا منه ". ويتبنّى غرايبة الدعوة لضرورة أن "تنأى الحركات الإسلاميّة و أيّ نموذج دينيّ آخر بنفسه عن الصراعات الدنيويّة و السياسيّة و الحزبيّة " ، بل أن تبقي تركيزها على جانبيّ "الدعوة و الأعمال الخيريّة ، خوفاً من زجّ اسم الدين بتلك الصراعات التي تنافي روحانيّة الدين ". ما بين المسميّات الشرعيّة و الواقع ! يرى أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنيّة الدكتور إبراهيم أبو عرقوب أنّ " ثمّة تداخل رهيب و تباين في المسميّات بين الشرع و العقليّة العربيّة في هذا الصدد ". ويوضّح قائلاً : " من ناحية شرعيّة هناك المسلم بالاسم فقط ، و هناك من يرقى عن هذا المستوى نحو الالتزام الحقيقيّ فيكون مؤمناً ، و هناك المنافق الذي يتسمّى بالدين لأيّ غرض كان بيد أنّه لا يتشرّبه من أعماقه " ، غير أننّا في الوطن العربيّ و الإسلاميّ نستخدم مسميّات و مفاهيم أخرى ، على الرغم من كون "المسميّات الإسلاميّة في هذا الصدد ، واضحة و حاسمة و تساعد على استجلاء حقيقة الأمور ". ويضرب أبو عرقوب المثال على "المنافق" ، الذي لا يستطيع لدينا "التصريح بقناعاته الدينيّة علناً ، كما لا يكتفي فقط بتصنّع ما هو ليس حقيقيّاً ، بل يتمثل الدين ليحوز على امتيازات المتديّنين ". ويطرح أبو عرقوب سبباً آخر لتمثل الدين أو على الأقل "السير في خطّه " ، و هو مسألة أنّ التديّن في مجتمعاتنا "عادة أكثر منها عبادة " ، لذا نتحوّل لفئة "ممارسين ليسوا بالضرورة مؤمنين". ويعود ذلك من وجهة نظر أبو عرقوب لكون "سلطة العادات أقوى و أشدّ من سلطة الدين في مجتمعاتنا العربيّة ، كما أنّ الدين الإسلاميّ استطاع بحكمة بالغة أن لا يُحدث تمرداً على العرف العربي ، بالإضافة لارتباط الدين بالقدسيّة في الوعي الجمعي ". وكنتيجة لكلّ ذلك يؤمن أبو عرقوب أنّ "كثيرون هم من يحاولون التدثر بعباءة الدين لنيل حظّ من هذه البركة و القدسيّة ، و لو كان ذلك لأجل الوجاهة الاجتماعيّة فقط من غير اقتناع ". و يقرّ أبو عرقوب أنّ الناس ب "بساطة و عفويّة" يسمّون من يرتاد المساجد و يتمثل الدين ظاهريّاً ب "المتديّن" ، فيما يسمّون "غير المحجّبة و غير المصلّي على سبيل المثال ب "غير المتديّن" ، بل يذهب البعض لاستخدام التعبير العامّي "ما عنده دين" ، في ترجمة واضحة ل "المعيار الظاهريّ" الذي يحكم البشر على أساسه ، و هو ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه و سلّم : "إذا رأيتم رجلاً يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإسلام ". و ذلك من باب الإرشاد النبويّ للمسلمين بأولويّة الاحتكام ل "حسن النيّة و الاستدلال بالظاهر حتى يثبت العكس". * كاتبة أردنية