اللجوء إلى سلاح البطش والقتل والدمار لفرض الوجود ومغالبة المنافس في الحياة؛ دليل ضعفٍ ووهن في فكر أصحابه، بل ويؤكد أن ثمة انحرافاً في مشاريعهم التي يدعون إليها، لذلك يستعينون على فرضها بسطوة السلاح وقهر الغلبة، وهذا مما يشكل عائقاً في طريق بناء حياة الشعوب وتوفير العيش الكريم، ليس بسبب حيازة السلاح وتفاخر به والنظر إليه أنه مصدر عز وحامي الوجود فحسب، بل لما يكمن وراء ذلك من عقلية ترى أن لها الحق في فعل ما تريد بالقوة والغلبة، وتفرض على الناس ما تراه صواباً، وبالتالي تضع المجتمع أمام خيارين ليس أحدهما بأكثر سوءاً من الآخر: فإما أن يضطر الجميع للتسلح والدخول في مختلف مشاريع الفتن والحروب لأتفه الأسباب، وإما أن يسلموا للقهر والغلبة ومنطق الاستضعاف، وينزلوا عند مبادئ الاستبداد ومناهج الإقصاء و القهر والغلبة. ومن نتائج ذلك ما نشهد اليوم من هيجان العنف، والتمادي في استباحة الدماء، وتهوين أمر القتل وإزهاق الأرواح، حتى صار البعض يُقدم على القتل لمجرد خلاف في رأي، أو خصومة على مكسب، أو عصبية لقبيلة، أو حتى حالة توتر وغضب، أو استجابة لأمر آمر منحوه حق الطاعة العمياء، ف «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» [التوبة/31].وتحت تأثير الشحن والتحريض، وإلباس الخصومات الأنانية ثوب الجهاد المقدس؛ يستبسل فريقٌ من الناس في قتال نُظَرَائهم في الخَلْق، وإخوانهم في الإنسانية، بل وشركائهم في الدين والوطن، بدعوى أنهم أهداف تشكل خطراً على الدين أو الوطن أو المصلحة العليا، دون أن يكترثو لما يَنْتج عن ذلك من آلام ومآس وبلاء مبين.. ويعضدهم فريق آخر بتسخير قدراتهم الذهنية وإمكاناتهم المادية والدعائية؛ لتبرير ذلك الشر، وخلق الأعذار لتجميل الصورة القبيحة للقتل .. وبدهاء يتم لبس الحق - المتمثل في القتال المشروع، الذي يمثل الحق الممنوح للإنسان في الدفاع عن دينه وحياته - بالباطل، المتمثل في القتال الممنوع الذي تنتجه الخصومة وتوقد ناره الأحقاد والعصبيات البغيضة. وبكل بساطة يُمنح القَتَلة أوصاف الشَّجاعة والبطولة، وتُطلق عليهم ألقاب: «المجاهدين في سبيل الله»، «حراس العقيدة» ، «حماة حمى الإنسانية»!! وترفع صورهم وقد سُطِّر عليها آيات تتحدث عن مكانة وفضل الشهداء في سبيل الله، وتكتب عن حياتهم القصص، وتُنشأ في مدحهم قصائد ومراثي تعتبرهم صفوة المجتمع ورواد الأمة، وذلك مما يستهوي البسطاء للتأسي بهم والمضي على نهجهم، في تدمير أمتهم ومجتمعهم وأوطانهم. ومن أسوأ ما في الأمر أن كثيراً من المعارك الجائرة والخصومات العبثية، تُنَفّذ باسم الدين، وذلك حين قرَّر فرقاء التعصب –من كل الملل – أن الحياة حق يختص به المتدينون منهم دون سواهم من الناس،ثم قَصَرُوا الدين على ملَّتهم، وعَيَّنوه في أمَّتهم، ف«قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (مِن جَهَلَةِ الأمم ومتعصبيهم) مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»[البقرة/113]، ثم وجدنا من أتباع الملل من اختزلوا ملتهم ودينهم في مذهب مُعَيَّن، ثم في جماعة خاصة ضمن المذهب الواحد، وبالتالي لا يرون جديراً بالحياة أحدا دونهم ، ولا أهلاً للكرامة والسعادة سواهم.. وهذا ما جعل كثيراً من الفرقاء - عند أبسط الخصومات - يستنفرون الطاقات، ويشحذون الهِمَم لفرض وجودهم، وبسط نفوذهم، وإحكام سيطرتهم وإخضاع من سواهم بشتى الوسائل، وإذا نشبت أيُ مواجهة خَرَج كل فريق يقتل الآخر تحت رايات يزعمون أنها رايات «جهاد في سبيل الله»، حتى صرنا نرى المسلم يقدم على قتل أخيه المسلم وهو يصرخ بأعلى صوته: «الله أكبر» ولا يستوحش من ذلك بل يفاخر به. ولتَزيين الأفكار العدوانية التي تبرر القضاء على الآخرين وإخراجهم من الحياة، وتبرير سلوك قتل المخالفين وإبادتهم، يقف الذِينَ فِي قُلُوبِهم زَيْغٌ على جبهات الفتن؛ ليزينوا لأنصارهم السوء، ويشرعون لأتباعهم المنكر، ويستغلون القرآن «فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»[آل عمران/7]، بهدف تأييد الخصومات وإضفاء القداسة والشرعية على الأفعال القبيحة، ومطالبة الناس بتأييدها ، ومن لم يفعل؛ فتهمته جاهزة ب«خذلان الحق» و«التثبيط عن الجهاد»، و«مداهنة الظالمين» ونحو ذلك مما اعتاد الناس سماعه من أقطاب الخصومات، وتُجَّار الموت. وهذا ما جعل من لا يعرف الإسلام إلا من خلال سلوك هؤلاء ينظر إليه على أنه - كان ولا يزال –سيفاً يقطر دماءً، وسوطاً يلهب الأجساد، ليدفع الناس طوعاً أو كرهاً نحو مآربه وغاياته، وذلك ما جعل دين الإسلام محل ريبة وقلق عند كثير من شعوب العالم، الذين يتساءلون: إن كان الإسلام رسالة رحمة وتسامح، ومنهج بناء وحياة؟! أم أنه مجرد برنامج تعبئة لتهييج الأحقاد وبث الكراهية، وإصدار أوامر القتل، ودعوات الإبادة والدمار؟! رغم أن الإسلام أسس دعوته على قاعدة: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»[النحل/125]. وما فتئ ينادي: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ?[البقرة/208]. وامتدح رفق النبي المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - ولطف تعامله مع الناس، فقال: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» [آل عمران/159]. فكان شعار الإسلام: السلم والسلام، ونهجه: الحكمة والاحتكام، وغايته: البر، والعدل، والإحسان. غير أن تلك النظريات والنصوص رغم قدسيتها وإلزاميتها؛ لا يمكن أن تقنع الآخرين، بسلمية الإسلام وحكمة منطقه؛ وهم يشاهدون المسلم يَتَقَرَّب إلى الله بقتل أخيه المسلم، ولو كان في بيت من بيوت الله قائماً أو راكعاً أو ساجداً. نعم .. لقد أمرنا الله أن نكون أقوياء وأن نعد ما استطعنا من وسائل المنعة بما فيها السلاح، غير أننا نعلم أن للسلاح - في التعاليم السماوية وخصوصاً الفكر الإسلامي- وظيفة واحدة، هي: رد العدوان المسلح والدفاع عن حقوق المجتمع ومنافعه الحيوية، وليس فرض القناعات على الآخرين بالقوة، بل إن الغرض من الأمر بإعداد القوة في قوله تعالى ?وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَااسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ?هو ما تلمح إليه الآية في عبارة ? تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّاللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَاتَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ? [الأنفال/ 60]من أن التظاهر بالقوة يهدف إلى تخويف العدو حتى لا يقدم على العدوان، فيتحقق بذلك الردع دون اشتباك مسلح، إذ لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولهدمت الحياة بكل خيراتها ومقدساتها. على أن «القوة» لا تقتصر على توفر السلاح القتل وعتاد المعارك، بل إن قوة المعرفة لا تضاهيها قوة أي سلاح، فبالمعرفة تُصنع الأسلحة وبالمعرفة تُحسم المعارك. وكذلك «الدفاع» لا يقتصر على استخدام السلاح،بل هو أعم وأوسع، والدفاع بالسلاح لا يكون إلا آخر الخيارات إذا لم ينجح غيره، من قبيل:«آخر الدواء الكي»؛لأن في الإقدام عليه فناء البعض، وإهلاك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. أسباب وجود الظاهرة وتفاقمها ولكي لا نظل نشكو وجعنا دون بحث عن سبب الداء الذي لا يمكن بدونه وصف الدواء، أو نبالغ في ذم الجماعات المسلحة، ونتبارى في إحصاء أخطائها، وكأنها خلقت لمجرد إفساد الحياة وتدمير الأرض، يتعين علينا أن نلفت الأنظار إلى أن سلوك تلك الجماعات جاء نتيجة عوامل مختلفة، ولم يخلق فيهم خلقاً، ولم يجبلوا عليه طبعاً، وليسوا بطبيعتهم أشراراً ، ولا تغيير سلوكهم مستحيل، وإن كان فيه مشقة وتحفه المتاعب.. صحيح أن ظاهرة الجماعات المسلحة مركبة ومعقدة، ولها أسباب كثيرة - ظاهرة وخفية - تسهم في إنتاج العنف وتصنع الرغبة في التسلط وفرض صورة معينة على الحياة، ولكن هذا لا يمنعنا من التفكير بصوت عال في معرفة الأسباب وتحليلها، والإسهام في وضع تصور لمعالجتها في إطار ما هو مقبول معقول ممكن. وعلى هذا يمكننا القول: بأن وجود الجماعات المسلحة في مجتمعنا العربي عموما واليمني على وجه الخصوص يرجع إلى سببين رئيسين، أحدهما اجتماعي سياسي، والآخر فكري ثقافي، فالأول يرجع إلى تأثيرات محيطها، والثاني يرجع إلى بنيتها الذاتية. الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي يؤكد كثير من الباحثين في شأن الجماعات المسلحة أن الكبت والاستبعاد الذي يتعرض له البعض منا يعد من أهم الأسباب المباشرة لوجود تلك الجماعات، وذلك أن كثيرًا من السياسات لم تكتف بتهميش بعض مكوناتها وعدم الاكتراث لها، بل وقفت في وجهها، وتصدت لأربابها، وحصرت نشاطها، وجمدت عطاءها، تحت أي مبرر وإن لم يكن منطقي، حتى في بعض البلدان التي تدعي الديمقراطية وحرية الرأي، فإن رياح التغيير السياسي إذا هبت في صالح تيار معين أو جماعة لها رؤيتها الخاصة فسرعان ما تمارس ما تراه حقا لها في المنع والقمع والتصدي والتحدي، مهما كانت الجماعات والأحزاب المعارضة معتدلة ومتنورةً، وهذا من شأنه أن يولد ردود أفعال غاضبة لا تجد ما تصب فيه غضبها وتفرغ فيه شحنات عواطفها إلا امتطاء صهوة العنف، وهنالك يبدأ التحرك في الخفاء وتتشكل المنظمات السرية، وتنطلق التوعية السلبية وشحن العواطف واستغلال المقدسات ونبش رفات الماضي المؤلم لبعث الأحقاد من جديد. ونحن نتفهم ما يذهب إليه أولئك الباحثون ونؤيدهم فيما يطرحون؛ فهو ما نشهده في واقعنا العربي وإن بنسب متفاوتة ومستويات مختلفة، ومبررات ذلك - عند مختلف الأطراف السياسية - سياسية؛ تطبعها بطابع ديني أو وطني أو إنساني، في حين تمارس في ظل ذلك من القمع والتهميش والإقصاء ما يسحق إنسانية الإنسان، ويسيء إلى أديان الشعوب، ويدمر الأوطان. ففي اليمن – على سبيل المثال - أجمعنا نحن اليمانيين على تحريم الاستبداد السياسي،والتسلط الاجتماعي، وقررنا – نظرياً - أن نمضي نحو التعددية السياسية والحرية الفكرية، وأطلقنا سباق التنافس في المشاريع الإصلاحية، وبرامج البناء، وخرائط تحديث وترشيد المجتمع.. فلم لم تحل مشكلتنا وتتظافر جهودنا ونتخلى عن حالة التمترس ضد بعضنا؟! ولم لجأ بعضنا إلى حمل السلاح لفرض وجوده بالقوة والقهر والغلبة؟! في رأس كل منا إجابات يتلمسها من واقع الحياة، تتطابق تارة وتختلف أخرى، وهي كثيرة ومتداخلة لا يمكن الإتيان على تفاصيلها أو الإحاطة بجزئياتها، وفي نظري أن منها: - أننا حينما توجهنا لانتزاع الاستبداد السياسي للفرد، شرَّعناه في نفس الوقت للحزب والجماعة، تحت مبرر الحق السياسي للأحزاب في تنفيذ برامجها، ومن ثمة أخذت الأحزاب تتعامل مع المجتمع كحقل تجريب يتدرب فيه على فن السياسة وفقا لبرامج بعضها مرتجل في الحال، والآخر مقلد على نموذج مختلف، والثالث مَوَات محنط من الماضي، فضلاً عما تمارس من مواربة وإغراق في الأنانية تجعلها تقرب مريديها وتوطد لأنصارها، وتسعى لا ضعاف وتهميش من لا يقبل التغريد في سربها، بل وتستغل - لفرض وجودها - ما يتاح لها من إمكانات مادية ومعنوية؛هي ملك للوطن، وللموطن فيها حق أياً كان انتماؤه، ومهما كانت خياراته السياسية والدينية. وبهذا لم تحل مشكلة الاستبداد وإنما أعيد تموضعه بشكل مخيف، يرى البعض - في ظله - أنه بحاجة إلى التسلح بأدوات الموت لحماية الحياة. – التوجه نحو تكريس تقاسم إدارة شأن البلاد، وتوزيع خيراتها على أسس حزبية ومناطقية ومذهبية، مما يشعل فتيل التنافس في استقطاب الناس بالحق والباطل، وتنطلق كل جماعة في إعداد نفسها وفرض وجودها ولو بقوة السلاح، لتكون حاضرة بقوة وتحصل على نصيبها من وطن صيره الساسة كعكة يتسابق الجميع على قضمها، ومن ثمة تتلبد أجواء الحياة بألوان من التضليل الإعلامي، والخداع السياسي، وتغرق المكونات القبلية في وحل الاستنفار العشائري، والشحن العاطفي، ولا توفر الجماعات الدينية شيئًا من التحريض المذهبي والتهييج الطائفي. وهذا مما يجعل الجميع - في ظل الخصومة والنزاع – يرى أن الأجنحة المسلحة والأذرعة العسكرية – ضرورة تستعد بها للأسوأ. – لم نقدم على مصالحة جادة نحرق بها ملفات الماضي، ونتحرر من تبعاتها، لنتفرغ لما يتطلبه المستقبل، فلا يزال بعضنا مصرا على استحضار خصومات وأخطاء الماضي،بما فيها أخطاء أسلافنا وأسلاف أسلافنا، ويجعلها حاضرة في وجداننا؛ كي تنطلق منها أفكارنا ورؤانا، وتفرض روحها على خططنا وبرامجنا، فهي التي تحدد علاقتنا بشركائنا في الدين والوطن والمصير المشترك، متناسين أن للماضي ما كسب وللحاضر ما اكتسب. وفي ضوء ذلك نخوض معارك وهمية، تدفعنا إلى الإبقاء على فكرة الصدامات المسلحة، فنرى ان من الحكمة أن ننشئ الجماعات المسلحة في اليوم الأبيض لليوم الأسود، أو نجعل من أنفسنا شريان حياة لجماعة موجودة، كعربون صداقة قد نحتاجه لإتمام الصفقة في وقت أو زمن لاحق!! –لا يزال حب السيطرة والتسلط مستشرياً بيننا بشكل مخيف، فالكل يريد أن يحكم والكل يرد أن يطبق مشروعه كما يشاء دون اعتبار لحق الآخر أو رأي المخالف، وليس فينا من هو مستعد لأن يكون مجرد مواطن وإن توفرت له أسباب العيش الكريم، بل نحن جميعاً منتظرون في طوابير التداول السلمي وغير السلمي للسلطة، وبالتالي يتحول وجودنا إلى وجود سلبي،إذ يرى كل منا أن أقرب طرق الوصول للسلطة يكمن في هدم ما يبنيه الآخرون ليثبت فشلهم، ويتمكن من تقديم نفسه كبديل مناسب. الاحتمالات كثيرة وشواهدها في واقعنا تنادي بأن ما نرفع من شعارات ما هو إلا مجرد شعارات للاستهلاك وتقطيع المراحل. نوازع التعصب والقراءة الخاطئة للدين تُجمع البحوث المتخصصة دراسة ظاهرة الجماعات المسلحة؛ أنها تعاني من مشكلة فكرية إن كانت خلفيتها دينية، أو مشكلة ثقافية إن كانت خلفيتها اجتماعية، أو مشكلة رؤية إن كانت خلفيتها سياسية، ومن مظاهر ذلك: - أن بعض الجماعات الدينية تعتقد أنه لابد من حمل الحاضر إلى الماضي، لنعيشه - قسراً - هناك؛ مقتنعين بأن الماضي كان أصلح من الحاضر، وبالتالي يتعين على الجميع العودة إلى تفاصيله وتطبيقها، إذ “لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها”، وفي هذا شيء من الاستغلال العاطفي وتلبيس المفاهيم؛ فلكل عصر حسنات وسيئات، وما يتعين الأخذ به من الماضي هو الفكر الذي جاء به الأنبياء فحسب، وليس التطبيقات التي مضى عليها الأتباع، فهم في الواقع محجوجون كما نحن، وليسوا مشرعين كالأنبياء مهما بلغ احترامنا لهم. وقد أخبرنا القرآن أن اختلاف الزمان وتبدل الظروف وتغير المعطيات سنة الله في الحياة، وهي تقتضي التغيير والتجديد، بصرف النظر عن إشراقات الماضي أو ظلاميته، حتى أن القرآن جعل الإصرار على التمسك بمناهج الماضين صور من صور العناد والكفر، فقال: ?وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ?[الزخرف/23-24]. بل اعتبره القرآن سفيها؛ ذلك الذي لم يقبل التجديد والتحوّل عن قبلة الماضي إلى قبلة الحاضر ، فقال ?سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? [البقرة : 142]. وصرح بكفر من لم يتخل عن تشريعات الأنبياء السابقين، وينصاع للمناهج والتشريعات التي جاء بها اللاحقون، فقال: ?وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا به فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ? [البقرة/89].وما ذلك إلا لأن الإصرار على استحضار نماذج تفصيلية من الماضي، لتكون الشرعة المقدسة لقيادة الأمة وسياسة المجتمع في زمن آخر؛ تعني قتل حيوية الحياة، وإيقاف إبداع العقول، والختم على الأسماع والأبصار والقلوب، واعتراض على سنة التطور والتجديد التي بنى الله الكون عليها. –لا يزال بعض من قذفت بهم الظروف إلى واجهة الزعامة، وتهيأت لهم أسباب القيادة يعيشون دون سن الإيمان بحق الآخر في الوجود والعيش الكريم، إن اختلف معهم أو فكر بطريقة أخرى غير طريقتهم، فضلاً عن الاعتراف بحقه في المشاركة والتعبير عن القناعات؛ لأنهم غارقون في وحل نظرية حتمية هلاك الجماعات والفرق المخالفة لهم، إلا من وهبوه بطاقة عضوية في مذهبهم، وقبلوا انتماءه إلى جماعتهم وحزبهم!! وهي - أي تلك النظرية - ما يدفع بهم للعمل للقضاء على الأكثرية «الهالكة» بنظرهم، لتبقى الأقلية «الناجية» من جماعتهم. فهم الناجون وهم الأفضل بشهادة أنفسهم لأنفسهم، وحينما يخيل للمرء أنه أفضل من غيره تتكون في شخصيته صفة العدوانية على الآخرين، لأن داء الاستعلاء وتقديس الذات بمثابة فيروس يضرب برنامج التعايش السلمي الذي أنتجه الدين، وتعاقب الأنبياء على صيانته في مختلف مراحل حياة البشر ، ف ?قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ? [إبراهيم/11]. ورغم ذلك لا يزال البرنامج الشيطاني يؤدي دوره في صنع المفارقات بين الناس دون موجب، بل وجدنا البعض يعمل على أسلمته وتحويله إلى نظرية دينية مقدسة، متناسين أن الرسالة أعلنت: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? [الحجرات/13] وبهذا أفقد التنافس والتعالي - بالانتماءات العرقية والجغرافية - بريقها وأرسى قاعدة فريدة في النظرة العامة إلى الناس على اختلاف ألوانهم وقومياتهم وخصوصياتهم العائلية والجغرافية، “فهي - في الوقت الذي تؤكد فيه على جانب التنوّع في الخصوصيات العرقية واللغوية والنسبية والجغرافية ونحوها بما يستتبعه من اختلافات على مستوى الواقع - لا تمنح أيّ نوع قيمة خاصة ترسم الفواصل بين إنسان وآخرين، وتقوده إلى استعدائهم أو محاولة السيطرة عليهم بأي عنوان عرقي أو قومي، بل إن تنوّع الخصوصيات وسيلة من وسائل التعارف، باعتبار حاجة كل فريقٍ إلى ما يملكه الفريق الآخر من خصوصيات فكرية وعملية، ليتكامل الاثنان في صيغة إنسانية متنوّعة، بحيث يكون التعارف غاية التنوع، بدلاً من التحاقد والتناحر والتنازع، ثم تكون القيمة في التقوى التي تعبِّر عن مضمون الشخصية المؤمنة العاملة في طرق الصَّلاح، وما يلتزمه الإنسان من تقوى الله”. – وجود خلل في مناهج البحث ومراجعة الذات والجدية في الكشف عن حقيقة ما يسترسل معه كلٌ منا من مسلمات، وينتج ذلك الخلل في تصوري نتيجة الجهل بضوابط البحث العلمي والتملص من إلزامية القواعد والمبادئ الجامعة، مما يسلب البحث قوته ويحرفه عن مساره، بل ويتحول إلى منصة لإطلاق المواقف المتشنجة التي تؤجج الخلاف وتثبيت العصبيات، ومن مظاهر ذلك. أ - الخلط بين الألفاظ والمصطلحات، لا سيما تلك التي يثار حولها الجدل، حيث تُحْمل - في أغلب الأحوال - على غير المراد منها، فيكون المتنازع عليه في واد والنزاع في واد آخر. كالانحراف بمفهوم الجهاد، وتشويه معنى الشهادة، والخلط بين معنى الفضل والتفضيل، وعدم التمييز بين التصويب والإصابة، والتجوز في إطلاق البدعة على فعل المباح.. وغير ذلك كثير. ب - التكلف في البحث عن أحكامٍ لبعض التفاصيل التي سكت القرآن عن ذكرها، ولم يأت في صحيح السنة ما يصرح بحكمٍ فيها، بل تُركت لظروف الناس وأحوالهم يتعاملون معها في الإطار العام للدين، دون تفاصيل في الكيفية والشكل.. مثل تفاصيل نظام الحكم، وإدارة شؤون المجتمع. وكبعض تفاصيل المعاملة في البيع والشراء والعلاقات الاجتماعية، لما في ذلك من تيسير على الناس وحيوية في الدين. ومن توصل لحكم شرعي معين لهذه المسألة أو تلك فهو بمثابة حكم وضعي في إطار الشريعة، يمكن العمل به لاعتبارات معينة، ويمكن تجاوزه واستبداله ومخالفته دون حرج. ج - اتخاذ مرجعيات دينية غير مرجعية النص الشرعي، وإن بحجة أنها المتخصصة في فهم النص الشرعي، بحيث جعل فريقاً من المسلمين ما أثر عن السلف بمثابة سنة يجب اتباعها بحجة أنهم السابقون والأكثر فهما لما جاءت به الشريعة.. وجعل فريق آخر ما أثر عن أهل البيت أمراً لازما، بحجة أنهم سفينة النجاة، وقرناء القرآن. وأصبح النزول على رأي هذا و ذاك - عند الأتباع –علامة التدين، والتردد فيه تهمة بالظلالة والانحراف، وهذا مما أدى إلى اتساع الهوة بين الناس، وأفرز مصطلحات وقواعد وأفكاراً قدسها الجدل، وأضحت دون سواها علامة التدين ورمز الاستقامة. الجماعات المسلحة جزء من مكونات المجتمع يمكن إدماج الجماعات المسلحة في المجتمع والتخفيف من مخاطر تفاقم الظاهرة وتحولها إلى خيار ومنهج حياة، شريطة أن تتوفر الرغبة في ذلك وتهيأ له الأرضية المناسبة، المتمثلة في: - مراجعة أسباب الاندفاع نحو التسلح والتطرف ومعالجتها دون مواربة أو تأجيل أو ترحيل أو التفاف، سواء كانت سياسية أو فكرية او اجتماعية كما هو واقع الحال. - إسقاط الحواجز الوهمية بين فئات المجتمع بالتزاور واللقاء، وإيقاف حملات التحريض والنفخ في أبواق الطائفية والمناطقية والعنصرية، وتقديمها على أنها جناية على الدين والمجتمع، وجريمة في حق الوطن الذي لا سعادة لنا فيه إلا بلملمة شمله ومداواة جراحه. – التشبع بثقافة قبول الآخر مهما كان توجهه الفكري والسياسي، والإيمان بوجوده والاعتراف بحقه في الحياة، والتعبير عن قناعاته في حدود الأدب والأخلاق التي يحب أن يعامل بمثلها. – التخاطب مع تلك الجماعات باللغة التي يعرفونها، والانطلاق بهم نحو ما لا يستنكرونه، دون تهجم أو تجريح لما يرونه مقدساً، مع تفهيمهم أن نقد الفكرة لا يعني تجريح صاحبها، ولا تضليله ومقاطعته، والتحضير للعدوان عليه. – توفير فرص عمل للشباب العاطل الذي تدفعه قسوة الظروف نحو الخيارات الصعبة، حينما يتوهم أنها تمنحه قسطاً من الراحة والطمأنينة، ولو كانت مقدمة من خلال من يزعم أن له صلة بالغيب وأنه أوتي فهما خاصا للقرآن. – إيجاد بدائل حزبية وفكرية واجتماعية مناسبة، وإتاحة الفرصة لتفريغ طاقات الشباب في المسارات الصحيحة، فالشباب طاقة إن لم توجه نحو البناء تحولت إلى عامل هدم، وذهبت في أي وجهة، وكان انفجارها مدويا. – عقد ندوات توعوية، وتسيير حملات مصالحات شعبية؛ لكسر حواجز العزلة وإنهاء حالات الانغلاق والاستيحاش لدى بعض فئات المجتمع. – تقويم الخطاب الديني والإعلامي في منابر المساجد ووسائل الإعلام، بحيث يؤدي دوراً إيجابياً في تصحيح المفاهيم وطمأنة الفرقاء، وتخفيض مستوى التوتر والاستنفار. - إدارة حوارات فكرية ودينية تنويرية هادئة تغوص في أعماق الأفكار وتجيب بمنطقية عن مختلف التساؤلات، حتى تقتلع الشبه من جذورها، وتقوم الأفكار التي تنتج الخصومات وتحشد للمواجهات المسلحة.