بينما أقلّب كالمعتاد في إبداعات الفلسطينيّ الشهيد ناجي العلي ، استوقفني كاريكاتيره الذي يسأل فيه حنظلة أحد الكتّاب قائلاً له "مقالك اليوم عن الديموقراطيّة عجبني كتير . شو عم بتكتب لبكرة؟ "، لِيردّ الكاتب : "عم بكتب وصيّتي"... الحديث عن الديموقراطيّة في أوطاننا حديث له شجون ، بيد أنّ ما يستوقفني كثيراً هو الجانب الاجتماعيّ و الدينيّ من المسألة أكثر من ذلك السياسيّ الذي له من المنظّرين ما يكفيه . مجتمعاتنا العربيّة و الإسلاميّة غارقة في النرجسيّة و الذاتيّة من رأسها حتى أخمص قدميها، كلّ يرفل وسط جعجعته .. لدرجة تحجب عنه الصوت الآخر مهما كان صاخباً .. نرسيس ذا العيون الفيروزيّة الملائكيّة ، لطالما تأمّل في بحيرته الزرقاء الساحرة ، غير أنّه قد هوى في أعماقها ليس إغراقاً في التأمّل بجمالها بل في تأمّل ما تعكسه من جمال عينيه .. ذرفت البحيرة دموعاً على عينيّ نرسيس ، ليس لجمالهما بل لأنهما تعكسان زرقتها الآسرة .. كلّنا كذلك ، لا نريد من الآخر إلاّ أن يكون مرآة نتأمّل عبرها ذواتنا .. كلّنا ندور في فلك أنفسنا ، و الخاسر كلّ الخسارة من يصدّق الهرطقات و الشعاراتيّة . غير أنّ من أكثر ما يثير حزني و أسفي هم أولئك الذين يجنّدون حياتهم للإسلام دعوة و تعليماً وعملاً ، فتخالهم قد سموا عن الذاتيّة و النرجسيّة بحكم ما يتعاطون معه من جانب مقدّس ، غير أنّ ذلك لا يعدو رومنسيّة زائدة تنضج نحو الواقعيّة عندما يحار الفرد إذ يبحث و يتقصّى عن جذور نبذ المتديّنين لأيّ شخص قد يغرّد خارج سربهم و لو بنزر يسير ! عندما يراهم و قد غدوا مصدر خشية لمن حولهم .. عندما يفرض التساؤل ذاته عن سبب وضع من أمامهم روحه على كفّه إذا ما تجرأ و خالفهم في إحدى نظريّاتهم التي يتفنّنون في تطويعها كيفما يريدون ؟ كيف لهم وصم من يفنّد نظرياتهم بالمتآمر و العميل و الساقط ؟ إذ نُراكم الجهود فوق الجهود كيّ نصل لديموقراطيّة حقيقيّة ، لربما يجدر بنا قبلها أن نعمل على تهدئة الجعجعة و الطحن كيّ نسمع بوضوح .. لربما علينا مسح القذى عن مقلتينا كيّ نرى الصورة على حقيقتها .. فلندع ما لله لله و ما لقيصر لقيصر، و ما على شاكلة ذلك من مبادئ شفافة ، فلندعها لله و للمدن الفاضلة بدلاً من امتطائنا لها لنتسلّق نحو المجد المغشوش.. فلنعتق ديننا السامي بعيداً عن مثلث برمودا الذي يقبع في أعماق كلّ منّا ، ذلك المثلث الغامض الذي يقتات على ذاتيّة و نرجسيّة و تصلّب يهشّم الأحلام الديموقراطيّة كلما اقتربت منه ..