كثيرة هي المرات التي تظهر فيها بعض القوى السياسية والحزبية بمواقف يغلب عليها الالتباس والاهتزاز والخلط الفج في المفاهيم. وتبرز ملامح هذه الحالة في طريقة تعامل هؤلاء مع معطيات ومضامين الحراك الديمقراطي الذي يستمدون منه شرعية نشاطهم السياسي والحزبي على الساحة الوطنية، فالمثير للاستغراب حقاً أنه وفي الوقت الذي تدعي فيه هذه القوى الحزبية تمثلها لنهج الديمقراطية وقواعد ممارستها، فإن ماتتبناه من مواقف وتوجهات يخالف ذلك تماماً بل أنه يتصادم كلياً مع أسس وجوهر الديمقراطية والقيم المتعارف عليها في أعرق الديمقراطيات على مستوى العالم. وتتضح آخر شواهد هذا التناقض الصارخ في الموقف الغريب والمريب لأحزاب اللقاء المشترك تجاه تعديلات قانون الانتخابات وتسمية أعضاء اللجنة العليا للانتخابات. ووجه الغرابة هنا تكمن في أن تلك الأحزاب التي كانت وراء المطالبة بإلحاح على إجراء عملية التعديل للقانون النافذ هي نفسها من عملت وبعد فترة من الحوارات والنقاشات على وأد هذه التعديلات عن طريق إفشال عملية التصويت عليها داخل البرلمان ونكثها بالوعود التي تعهدت بها كتلتها البرلمانية ولجوئها إلى المماطلة، الأمر الذي لم يجد أمامه مجلس النواب من خيار سوى ممارسة صلاحياته ومسؤولياته حيال ما يتصل بضمان إجراء الاستحقاق الانتخابي النيابي القادم في موعده وزمانه المحدد. ومن خلال هذه الواقعة وغيرها يتضح جلياً أن قيادات أحزاب اللقاء المشترك تعمل بدأب على تفصيل الديمقراطية وفق آرائها وأفكارها ومقاساتها ورغباتها وأهوائها لا وفق ما تقتضيه أصول ومبادئ الديمقراطية وفلسفتها ومنهجيتها ومفهومها الصحيح والسليم. والمؤسف أن هذه القيادات تحاول إصباغ رؤيتها بألوان مثالية زائفة، ومخادعة للناس، مع أن الحقيقة أن ما تلهث وراءه تلك القيادات ليس سوى تأمين مصالحها الذاتية والأنانية والحصول على بعض المنافع السياسية والحزبية، ولو كان ذلك على حساب تقويض الديمقراطية والالتفاف على قيمها وجوهرها النقي. ونعتقد أن من الفائدة لهذه الأحزاب أن تعي وتدرك أنه من غير الممكن لها امتلاك الفاعلية والتأثير وكسب ثقة الجماهير عبر تلك الرؤية الطوباوية التي تتقدم فيها الأنا على حق الآخر إنساناً أو حزباً أو مجتمعاً. وقد برهنت كل التجارب على أن الطوباويين في كل العصور كانوا مضرب الأمثال في الخيبة والفشل والإخفاق. وبالتالي فإن من الواقعية أن تبتعد هذه الأحزاب عن أساليب الزيف التي تحاول الظهور من خلالها وكأنها تسعى إلى إقامة جمهورية افلاطون وأن تتجه بدلا عن ذلك إلى مراجعة التوجهات التي تبني عليها مواقفها والرؤى التي تتحرك في إطارها والتسليم بحقيقة أن الديمقراطية خيار وطني وحضاري وإنساني يصعب قولبته وفق الأهواء والرغبات والأمزجة باعتباره استحقاقاً للشعب الذي اختار هذا النهج كناظم لمسار حياته وشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن هذه الزاوية فإن من المنطق أن يحرص الجميع على تنقية العمل السياسي والحزبي من النوازع الذاتية وسلبيات الاندفاع والتسرع والارتجال وصولا إلى ترسيخ معاني الديمقراطية وغاياتها النبيلة وتحقيق المصالح العليا للوطن وتعزيز مداميك السلم الاجتماعي، وتلك مسؤولية كل أبناء الوطن وفي مقدمتهم الأحزاب والتنظيمات السياسية، التي يتعين عليها تجسيد هذه المسؤولية في أفعالها وتصرفاتها لتكون القدوة والمثل في التعبير عن صدق الولاء والانتماء لليمن الأرض والإنسان.