تدفع التطورات اليمنية في الأيام القليلة الماضية الى محاولة فهم أبعاد الأحداث التي يشهدها هذا البلد العربي المهم من نواح عدة في مقدمها موقعه الاستراتيجي. قبل كل شيء، لا بدّ من الاشارة الى العرض العسكري الكبير في صنعاء في الذكرى التاسعة عشرة لاعلان الوحدة. أنه العرض الأول من نوعه منذ ما يزيد على عشر سنوات.. في السنوات الماضية، كان للرئيس علي عبدالله صالح قرار واضح يقضي بالاستغناء عن العروض العسكرية، لذلك، كانت هناك عروض شبابية وأخرى ذات طابع فولكلوري انتقلت من صنعاء، الى عدن، الى حضرموت، الى إب، الى الحديدة. ماذا يعني العرض العسكري الذي ظهرت فيه أسلحة متطورة؟ انه تغيير في المزاج من جهة كما أنه من جهة أخرى تحذير واضح بأن السلطة لن تقبل بالانفصال وأن لديها الوسائل الكفيلة بإحباط أي محاولة تصب في هذا الاتجاه وأن المرونة في التعاطي مع ما يسمى "الحراك السلمي الجنوبي" لا تعني أن السلطة ضعيفة. ترافق العرض العسكري مع ظهور السيد علي سالم البيض في مدينة تقع جنوب النمسا واعلانه من هناك سعيه الى التخلص من الوحدة. ولعل أبرز ما في كلام البيض، وهو الأمين العام السابق للحزب الأشتراكي اليمني الذي قاد المحاولة الأنفصالية الأولى في العام 1994، محاولته الظهور في مظهر الزعيم الوطني "الجنوبي" الذي لا ارتباط له بحزب معين. أراد البيض القول أنه بات فوق الأحزاب، وذلك في ظهوره العلني الأول منذ العام 1997 من مدينة جنيف السويسرية. وقتذاك، كانت له اطلالة عبر احدى الفضائيات العربية التي أخضعت خطابه الحاد المسجل مسبقا لمقص الرقيب. وعلى الأثر غاب البيض عن الأنظار قبل أن يعود الى الواجهة في العام 2009 معتقداً أن الظروف تغيّرت جذريا في اليمن وأن في استطاعته المجازفة بنزع الجنسية العُمانية عنه والدخول في مواجهة مكشوفة مع مشروع الوحدة الذي لعب دوراً في التوصل اليه في العام 1990. هل صحيح أن الظروف تغيّرت جذرياً في اليمن، أم أن المشهد الراهن تكرار لما حصل خلال حرب العام 1994 والشهور التي سبقتها عندما ساهمت عوامل عدة في خسارة الانفصاليين لتلك الحرب؟ من بين تلك العوامل اطلاق صواريخ بعيدة المدى في اتجاه صنعاء بما مكّن السلطة المركزية من حشد المواطنين حولها بعدما استهدفت الصواريخ مواقع مدنية. ثمة عامل آخر ساهم في سقوط مشروع الانفصال على الرغم من كل الدعم الذي حظي به من بعض الجهات الاقليمية. يتمثل هذا العامل في مسارعة السيد علي سالم البيض الى اعلان انتهاء الوحدة وقيام كيان مستقل في ما كان يسمى المحافظات الجنوبية مستخفا بالألتفاف السياسي حول القيادة اليمنية التي كانت تضم جنوبيين وشماليين عسكريين ومدنيين، كانت تلك اشارة الى رغبة في الانقلاب على دولة الوحدة من دون مبرر شرعي مقنع ومن دون مشروع سياسي قابل للحياة. بدا البيض في حينه وكأن همه الأوحد خلق كيان منفصل على أي جزء من الأرض اليمنية، غير آبه بالنتائج التي يمكن أن تترتب على مثل هذه الخطوة الخطيرة، وكان انتقاله الى مسقط رأسه في حضرموت بمثابة دليل على أن هدفه النهائي ليس العودة الى "جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية" التي دخلت في وحدة أندماجية مع "الجمهورية العربية اليمنية" بمقدار ما أنه يريد الانفصال، أي أنفصال، لم يكن اليمنيون، بما في ذلك المواطنون في ما كان يسمى الجنوب، يعتقدون أن الانفصال مشروع قابل للحياة، وأنه السبيل الوحيد للخروج من المأزق السياسي الذي تمر به البلاد بعدما قرر البيض، الذي كان أيضاً نائباً لرئيس مجلس الرئاسة، الاعتكاف في منزله في عدن... التي توجه اليها مباشرة اثر رحلة الى الولايات المتحدة! هناك نقاط تشابه كثيرة بين 1994 و2009 في اليمن ولكن هناك أيضاً بعض الفوارق. يكمن الفارق الأوّل في وجود تمرد الحوثيين في محافظة صعدة الشمالية، أما الفارق الآخر المهم فهو يقوم على عدم وجود قوات مسلحة خاصة بالانفصاليين كما كانت الحال في العام 1994 حين كان لدى الحزب الاشتراكي جيشه. هل رهان الانفصاليين في العام 2009 على الضغط الذي يشكله الحوثيون على السلطة تعويضاً عن عدم أمتلاكهم تنظيما مسلحاً أو جيشاً نظامياً هذه المرة؟ في كل الأحوال، يواجه المشروع الانفصالي في اليمن مشكلة أنه ليس متماسكاً، ذلك أن كل يمني، أكان من الشمال أو الجنوب أو الوسط، يعرف في قرارة نفسه أن العودة الى وجود شطرين لا يحل أي مشكلة، الدليل على ذلك أن تاريخ الكيان الذي كان قائماً في الجنوب بين 1967 و1990 يختصر بسلسلة من الحروب الداخلية والاغتيالات التي لا يزال بعضها غامضاً بلغت ذروتها في الثالث عشر من يناير 1986 تاريخ سقوط النظام وانهياره الفعلي نتيجة حرب أهلية ذهب ضحيتها الآلاف. هذا لا يعني أن لا مشاكل في اليمن، وأن كل شيء على ما يرام. لكنه يعني أن الانفصال ليس حلاً في أي شكل.. مشاكل اليمن تحل في اطار الوحدة التي لا تخدم الاستقرار الداخلي فحسب، بل الاستقرار الاقليمي في منطقة حساسة جداً أيضاً.