المحرّمي يؤكد أهمية الشراكة مع القطاع الخاص لتعزيز الاقتصاد وضمان استقرار الأسواق    3923 خريجاً يؤدون امتحان مزاولة المهنة بصنعاء للعام 2025    حلف قبائل حضرموت يؤيد بيان السلطة المحلية وقرارات المجلس الانتقالي الجنوبي    العليمي يشيد بجهود الأشقاء في المملكة من أجل خفض التصعيد في حضرموت والمهرة    لقاء في صنعاء يناقش مستجدات اتفاق تبادل الأسرى    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    بالفيديو .. وزارة الداخلية تعلن دعمها الكامل لتحركات المجلس الانتقالي وتطالب الرئيس الزبيدي بإعلان دولة الجنوب العربي    الإعلامية مايا العبسي تعلن اعتزال تقديم برنامج "طائر السعيدة"    الصحفي والمناضل السياسي الراحل عبدالرحمن سيف إسماعيل    ميسي يتربّع على قمة رياضيي القرن ال21    استثمار سعودي - أوروبي لتطوير حلول طويلة الأمد لتخزين الطاقة    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    الرياض: تحركات مليشيا الانتقالي تصعيد غير مبرر وتمت دون التنسيق معنا    ويتكوف يكشف موعد بدء المرحلة الثانية وحماس تحذر من خروقات إسرائيل    باكستان تبرم صفقة أسلحة ب 4.6 مليار دولار مع قوات حفتر في ليبيا    أرسنال يهزم كريستال بالاس بعد 16 ركلة ترجيح ويتأهل إلى نصف نهائي كأس الرابطة    تركيا تدق ناقوس الخطر.. 15 مليون مدمن    شرعية "الروم سيرفس": بيع الوطن بنظام التعهيد    الجنوب العربي: دولة تتشكل من رحم الواقع    بيان بن دغر وأحزابه يلوّح بالتصعيد ضد الجنوب ويستحضر تاريخ السحل والقتل    ذا كريدل": اليمن ساحة "حرب باردة" بين الرياض وأبو ظبي    نيجيريا.. قتلى وجرحى بانفجار "عبوة ناسفة" استهدفت جامع    حضرموت.. قتلى وجرحى جراء اشتباكات بين قوات عسكرية ومسلحين    سلامة قلبك يا حاشد    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    ذمار.. مقتل مواطن برصاص راجع إثر اشتباك عائلي مع نجله    الجزائر تفتتح مشوارها بأمم إفريقيا بفوز ساحق على السودان"    النائب العام يأمر بالتحقيق في اكتشاف محطات تكرير مخالفة بالخشعة    تعود لاكثر من 300 عام : اكتشاف قبور اثرية وتحديد هويتها في ذمار    مؤسسة الاتصالات تكرم أصحاب قصص النجاح من المعاقين ذوي الهمم    شباب عبس يتجاوز حسيني لحج في تجمع الحديدة وشباب البيضاء يتجاوز وحدة حضرموت في تجمع لودر    ضبط محطات غير قانونية لتكرير المشتقات النفطية في الخشعة بحضرموت    الرئيس الزُبيدي: نثمن دور الإمارات التنموي والإنساني    الدولار يتجه نحو أسوأ أداء سنوي له منذ أكثر من 20 عاما    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في مشروع سد حسان بمحافظة أبين    لملس يتفقد سير أعمال تأهيل مكتب التعليم الفني بالعاصمة عدن    أبناء العمري وأسرة شهيد الواجب عبدالحكيم فاضل أحمد فريد العمري يشكرون رئيس انتقالي لحج على مواساته    الحديدة تدشن فعاليات جمعة رجب بلقاء موسع يجمع العلماء والقيادات    هيئة الزكاة تدشن برامج صحية واجتماعية جديدة في صعدة    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    دور الهيئة النسائية في ترسيخ قيم "جمعة رجب" وحماية المجتمع من طمس الهوية    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    تضامن حضرموت يواجه مساء اليوم النهضة العماني في كأس الخليج للأندية    اختتام دورة تدريبية لفرسان التنمية في مديريتي الملاجم وردمان في محافظة البيضاء    تونس تضرب أوغندا بثلاثية    إغلاق مطار سقطرى وإلغاء رحلة قادمة من أبوظبي    وفاة رئيس الأركان الليبي ومرافقيه في تحطم طائرة في أنقرة    البنك المركزي يوقف تراخيص فروع شركات صرافة بعدن ومأرب    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    تكريم الفائزات ببطولة الرماية المفتوحة في صنعاء    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    تحذيرات طبية من خطورة تجمعات مياه المجاري في عدد من الأحياء بمدينة إب    مرض الفشل الكلوي (33)    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المبادئ ثابتة.. والأحكام متغيرة
نشر في 26 سبتمبر يوم 11 - 07 - 2013

على امتداد القرن الماضي وحتى الآن شهدت الأوضاع التشريعية في مصر تحولات هامة جعلت من الفكر الدستوري فيها منارا يهتدي به العقل العربي والاسلامي في العصر الراهن. وزاد من قيمة هذه التحولات ثبات الموقف من مبادئ الشريعة الاسلامية كمصدر رئيسي للتشريع عند صياغة الدستور الجديد بمشاركة أحزاب الاسلام السياسي الرئيسية في مصر، وليس أحكامها بما هي أحكام واجتهادات وضعية للفقهاء على مر العصور.
قبل حوالي ثلاثة اعوام أصدر البروفيسور حسن مجلي أستاذ علوم القانون الجنائي في كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء والمحامي أمام المحكمة العليا، كتاباً قيماً تضمن ملاحظات نقدية على مشروع قانون تقدمت به لجنة تقنين الشريعة الإسلامية الى مجلس النواب قبل اندلاع الأزمة السياسية عام 2011م ، وصف فيه هذا المشروع بأنه (جاء ليخدم مصالح القوى المتخلفة في المجتمع) مشيراً إلى أن واضعيه عملوا جاهدين على إلغاء كل اجتهادات فقهاء اليمن الأوائل المتحررين من التعصب والجمود، وتكريس الآراء والأفكار والأقوال السلفية الوهابية المتزمتة والمتطرفة بديلاً عنها، ناهيك عن أن المشروع المقدم من لجنة تقنين الشريعة التي يهيمن عليها نواب كتلة حزب التجمع اليمني للإصلاح في البرلمان تخلى عن كل ماهو متقدم وانساني من أحكام وقواعد في القانون الجنائي النافذ، وقام بتكريس جرائم وأحكام وعقوبات بعضها في غاية الغرابة والقسوة والتشدد، ناهيك عن أن معظمها لا أصل له في الشرع، ولاينسجم مع روح العصر وقيم العدالة والمساواة والحرية .
وبوسع كل من يطلع على الجهد الكبير والرائع الذي بذله البروفيسور حسن مجلي في كتابه المشار إليه آنفاً، ان يلاحظ كثيراً من المخاطر المدمرة في المشروع المقدم من لجنة تقنين احكام الشريعة حول الجرائم والعقوبات، انطلاقاً من رؤية حزب التجمع اليمني للاصلاح للشريعة الاسلامية ونظام الحكم، والتي من شأن تطبيقها عملياً في حال وصول هذا الحزب الى السلطة ان يلحق بالمجتمع والبلاد عموماً ويلات وكوارث كبيرة لاتضاهيها سوى تلك التي حلت بالمجتمع الافغاني المنكوب عقب وصول حركة (طالبان) الى الحكم ، وإقامة إمارة إسلامية في افغانستان كخطوة على طريق احياء نظام الخلافة الامبراطوري الاقطاعي الذي يتوهم الاسلام السياسي بامكانية إحيائه من جديد وإعادة انتاج عصر اقتصاد الخراج مجدداً.
ومما له دلالة خطيرة ان لجنة تقنين احكام الشريعة الغت في مشروع القانون الذي تقدمت به الى مجلس النواب عشية الأزمة السياسية مناط تحديد النشاط المعاقب عليه، والذي كان يعتمد على النص القانوني أو الحكم الشرعي كما هو الحال في قانون الجرائم والعقوبات النافذ، وأستبدلته بما أسمته اللجنة في مشروعها (النص الشرعي على أساس أصح الاقوال)!!!
وبهذا المعنى أصبح باب التجريم والعقاب مفتوحاً على مصراعيه ، ويتسع لأي رأي يزعم المتزمتون أنه (اصح الاقوال) ، الامر الذي يهدد بإخضاع التجريم والعقاب للأقوال التي يدور حولها خلاف وصراع فكري بين الاتجاهات الفقهية والمذاهب الدينية المختلفة، ويجعل تفسير ما يسمى (النص الشرعي على أساس اصح الاقوال) رهناً لدى إجتهادات وتفسيرات الاشخاص القائمين على تنفيذ القانون وإتجاهاتهم الحزبية أو الايديولوجية أو المذهبية، وطرائق تفكيرهم ومستوى فهمهم للنصوص الشرعية والآراء الفقهية الموروثة عن العصور الغابرة .
والحال أن عدداً كبيراً من الأكاديميين ورجال القانون أصيبوا بصدمة لا توصف عندما قدمت لجنة تقنين الشريعة في مجلس النواب مشروعها الانقلابي بعد سنتين من الانتظار الطويل، بينما كان الناس ينتظرون تصويب النصوص القانونية التي تكرس التمييز ضد المرأة تنفيذاً لتعهدات رئيس الجمهورية السابق في برنامجه الانتخابي.. وبلغت الصدمة ذروتها عندما لم تكتف لجنة تقنين الشريعة بتجاهل مشروع التعديلات الذي تقدمت به الحكومة السابقة بهذا الشأن، بل أضافت تعديلات إضافية لا تشكل فقط إهانة للمرأة وتكريساً للتمييز القائم ضدها في قانون الجرائم والعقوبات الذي جرى تعديله بعد حرب 1994م ، بل تدميراً تاماً لكافة المكاسب التي حققتها منذ قيام الثورة والوحدة، وفي مقدمتها حقها في العمل والتعليم والمشاركة في الحياة العامة .
ويمكن القول إن المشروع المقدم من لجنة تقنين احكام الشريعة- حينها-لم يستهدف تصويب الاخطاء الموجودة في قانون الجرائم والعقوبات الحالي، وهو الهدف الرئيسي لمشروع التعديلات االذي قدمته حكومة الدكتورعلي محمد مجور السابقة وأحبطته كتلة حزب التجمع اليمني للأصلاح رغم وجود أغلبية برلمانية للحزب الحاكم سابقا، مع الاخذ بعين الاعتبار أن الاخطاء الواردة في القانون الحالي ما كانت لتحدث لولا التعديلات الرجعية التي فرضها حزب التجمع اليمني للإصلاح أثناء مشاركته في السلطة بعد حرب صيف 1994م المشؤومة.. وعلى النقيض من ذلك جاء المشروع الانقلابي الخطير للجنة تقنين الشريعة ليعيد انتاج بعض الآراء الفقهية المتشددة في صياغات بدائية وهمجية تشكل انتكاسة خطيرة إلى الوراء واغتيالا سافرا لمشروع بناء الدولة الحديثة التي تقع اليوم في صدارة مهام مؤتمر الحوار الوطني الشامل .
واللافت للنظر أن المشروع المقدم من لجنة تقنين احكام الشريعة جاء خالياً من أية عقوبات يحتاجها المجتمع لمواجهة بعض الجرائم الحديثة التي انتشرت في عصرنا، ولم تكن موجودة في عصور الاسلاف الغابرة.. كما ان المشروع لم يتضمن احكاماً تسد القصور التشريعي في القانون نتيجة اصرار اللاعقل السلفي على عدم استيعاب الجرائم المرتبطة بالتطور التكنولوجي والعلاقات الدولية والأمن والسلم الدوليين، ناهيك عن انه لايتضمن أي تجريم لمخالفة الأوامر القضائية او الامتناع عن تنفيذها من عموم الافراد والمؤسسات ومراكز القوى والجماعات المنظمة .
والأخطر من ذلك أن المشروع المقدم من لجنة تقنين الشريعة يتعارض مع الحريات المدنية وحقوق الانسان التي تلتزم بها بلادنا بموجب المادة الرابعة من الدستور ، الأمر الذي من شأنه تعريض بلادنا للعقوبات الدولية وعزلها عن العصر والعالم الواقعي ، وهو ما تتجاهله لجنة تقنين الشريعة التي لايستطيع اعضاؤها التحرر من الاقامة الدائمة في الماضي، والكف عن الاستغراق في متون الكتب الفقهية القديمة التي عفى عليها الزمن .
مما له دلالة ان التقرير المقدم من لجنة تقنين الشريعة التي تخضع لرؤية حزب التجمع اليمني للاصلاح وجامعة الإيمان قبل بضعة شهور من اندلاع الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد عام 2011م ، تجاهل بصورة سافرة الآليات التي تضمن التفاعل الحي بين النص القانوني والواقع ، ومايصاحب ذلك من أخطاء وتعسفات وويلات تستوجب وضع نصوص جنائية جزائية في مجال التجريم والعقاب ، وبما يمنع التمادي في تأويلها وممارسة التعسف ضد المواطنين والاجانب غير المسلمين الذين يعيشون ويقيمون في اليمن .
وقد أبدى التقرير المقدم من لجنة تقنين أحكام الشريعة أصراراً عجيباً على تعديل كل النصوص القانونية التي تحدد المسؤولية الجزائية وتصفها بأنها شخصية ، وان لاجريمة ولاعقوبة الا بقانون . وعملت على استبدالها بنصوص رمادية وعائمة تستبدل شرط القانون للعقوبة بما يسمى (النص الشرعي ) وهذا الاصرار يعد مخالفة صريحة وسافرة للدستور ، حيث زعمت لجنة تقنين الشريعة بان عبارة ( نص شرعي) وردت بصورة (( ضمنية)) في المادة 3 من الدستور التي جعلت من الشريعة الاسلامية مصدر جميع التشريعات.. بينما يذهب اكاديميون وقانونيون بارزون الى أن المتاجرة الكلامية بعبارة (النص الشرعي ) هي افتئات على السلطة التشريعية ، لأن المادة الثالثة من الدستور جعلت من الشريعة الاسلامية (مصدر جميع التشريعات) وليس مصدر جميع الاحكام القضائية ، كما أن كلمة التشريعات الواردة في المادة 3 من الدستور تفيد بأن أحكام الشريعة والآراء والمبادئ الفقهية المنسوبة اليها يجب ان تصاغ في قالب تشريعي ، حتى تصير تشريعات نافذة وسارية المفعول ، وملزمة للقضاء بدلاً من فتح الابواب على مصراعيها لأي فقيه او قاض لإستنباط فهمه الخاص لما يسمى (النص الشرعي) انطلاقاً من موقف مذهبي او حزبي او ايديولوجي متزمت !!!
وعليه يمكن ملاحظة نقطة الصراع الخطير بين الدستور ومشروع القانون الذي سعى حزب الاصلاح الى تمريرعبر مجلس النواب عشية الأزمة السياسية بهدف إفراغ الدستور من محتواه ، أوالتمهيد لتعديله بما يفتح الطريق واسعاً أمام مخطط طلبنة اليمن ، والانتقال لاحقاً إلى مرحلة جديدة وخطيرة للغاية ، وهي تعديل الدستور بصورة جذرية.
وما من شك في أن الدستور اليمني لم يمنح أحكام الشريعة الاسلامية والمذاهب الفقهية المنسوبة إليها قوة إلزام ذاتية كما هي موجودة في كتب الفقهاء الأسلاف في العصور الغابرة، وما تتضمنها من إختلافات وخلافات ، لأن قوة الإلزام لا تعود إلى آراء الفقهاء بل إلى قواعد القانون ، بعد أن يقوم المشرعون بصياغتها في نصوص قانونية وضعية طبقاً للإجراءات الدستورية .. وبذلك يكون مصدر الإلزام ليس الوظيفة الكهنوتية لبعض رجال الدين المتنفذين ، بل للأحكام والنصوص الشرعية بعد ان تتحول الى تشريعات ملزمة ومجسدة في نصوص قانونية محددة . بمعنى ان مصدر الإلزام ليس رجال الكهنوت بل سلطة الدولة باعتبارها ممثلة للمجتمع بأسره عبر الهيئات الدستورية الشرعية.
والحال ان المادة الثالثة من دستور الجمهورية اليمنية تخاطب المُشرِّع وهو مجلس النواب المنتخب من الشعب عبر صناديق الاقتراع، ولاتخاطب السلطة القضائية او رجال الدين .. فالدستور يُلزم السلطة التشريعية بأن تستمد التشريعات القانونية من أحكام ومبادئ ومقاصد الشريعة الاسلامية والمصالح المرسلة واجتهادات الفقهاء المعاصرين وليس الاسلاف فقط .. كما يلزم السلطة التنفيذية في الوقت نفسه بان تستند الى هذه الاحكام والمبادئ والاجتهادات والمصالح المرسلة في تفسير القوانين وتطبيقها بما يضمن رعاية مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم وعدم تكليفهم بما يشق عليهم ويوقعهم في الضيق والحرج ، وهو ما أكدته المادة الثالثة من القانون المدني اليمني النافذ ، والتي تنص على ( ان الشريعة الاسلامية مبنية على رعاية مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم والتيسير عليهم في معاملاتهم وعدم تكليفهم بما يشق عليهم ويوقعهم في الضيق والحرج )
ولانبالغ حين نقول ان العديد من الاكاديميين وفقهاء القانون في اليمن يرون ان المادة الثالثة من الدستور لا تُلزم السلطة التشريعية بالاقتصار في مجال التشريع ( أي أصدار القوانين ) على مصدر واحد فقط هو مبادئ الشريعة الاسلامية واجتهادات واقوال الفقهاء الاسلاف، بل ان المُشرِّع اليمني يملك الحق في ان يستمد من التشريعات المقارنة والعرف والعادات والقانون الدولي ومبادئ العدالة والاجتهادات الفقهية والقضائية المعاصرة ما يراه مناسباً وملائماً للمنفعة العامة والمصالح المرسلة. والسبب في ذلك يعود إلى أن مناط التكليف عند الدولة هو العقل الجمعي والواقع الملموس والمصلحة العامة ، وأن أقوال الفقهاء ورجال الدين الاسلاف في العصور الغابرة ، ليست ملزمة للمُشرِّع اليمني .. لكن ذلك لا يمنع الاستئناس بها بشرط عدم تعارضها مع مبادئ ومقاصد الشريعة الاسلامية والنظام العام والآداب العامة والمصالح المرسلة والقانون الدولي والمواثيق الدولية والقيم الانسانية المشتركة للحضارة المعاصرة .
في هذا السياق وجه البروفيسور حسن مجلي في كتابه المشار اليه آنفاً، نقداً مريراً لمشروع قانون الجرائم والعقوبات المقدم من لجنة تقنين أحكام الشريعة ، مشيراً إلى أن الدستور اليمني لم يجعل إجتهادات الفقهاء والاحكام الشرعية غير القطعية اساساً قائماً بذاته للتجريم والعقاب دون الحاجة إلى وضعه في نصوص قانونية ، ناهيك عن أن المُشرِّع الدستوري في الجمهورية اليمنية لم يقرر إعتبار الشريعة الاسلامية (المصدر الوحيد) للتشريعات في اليمن، وإنما نص على كونها فقط (مصدر التشريعات) دون تخصيص بالواحدية والتفرد ، بل إن الدستور اليمني لم يصفها حتى بأنها مصدر رئيسي، ولذلك يكون التخصيص هنا باطلاً، ومتعارضاً مع بنية ومدلول النص الدستوري ، بالاضافة إلى تعارض التخصيص مع مقتضيات الإلتزام بالقانون الدولي والمواثيق الدولية التي لا يمكن بدونها أن تعيش الجمهورية اليمنية في العالم الواقعي وممارسة سيادتها وإستقلالها وحماية وتطويرمصالحها ضمن أطر المجتمع الدولي الحديث .
وبوسعنا القول إن منطوق المادة الثالثة من الدستور اليمني ملزمة للسلطة التشريعية من حيث وجوب أن يكون مصدر التشريعات في اليمن هو الشريعة الاسلامية من ناحية ، وعدم السماح لأية جهة كانت بالزعم بأنها تملك الحق في تعريف الشريعة وفق أقوال للفقهاء السلف بذاتها وإعتماد بعضها كأصح الاقوال من ناحية أخرى !!!..مالم تكن تلك الاقوال (المعتمدة على أنها الاصح) قد صدرت على هيئة نصوص قانونية واضحة من قبل السلطة التشريعية.
ويرى البروفيسور حسن مجلي أن القوانين عموما تنص على المرجع في تفسير النصوص الواردة بالقانون وليس وضع أسس التجريم والعقاب، ولكن المشروع الانقلابي المقدم من لجنة تقنين الشريعة ينص على تخويل الجهات ذات العلاقة وفي مقدمتها (المحتسبون) والشرطة والنيابة العامة والقضاة إمكانية إضافة جرائم وعقوبات جديدة لم ترد في القانون، وذلك استناداً إلى مجرد ((أقوال)) صادرة من أي شخص في الماضي أو الحاضر ما دامت هذه الأقوال هي (الأصح) في نظر أصحابها ولو كانت مخالفة للاجتهاد والإجماع والمصلحة العامة والدستور والقوانين النافذة والقانون الدولي والمواثيق والاتفاقيات الدولية.
ومن نافل القول إن تجريم الناس ومعاقبتهم بدون نصوص قانونية وإنما استناداً إلى مجرد رأي أو قول هذا الشخص أو ذاك ، سيفتح باب التجريم والعقاب على أساس (الحسبة) ضد الناس، ويلغي المشروعية الدستورية والقانونية معاً، كما أنه سيزج باليمن في أتون الصراعات المذهبية والطائفية والحزبية بسبب صيرورة ((الأقوال)) أو ((الآراء)) في مجال الفقه الشرعي الى وسيلة للتجريم والعقاب في اليمن. حيث من شأن عبارة (( أصح الأقوال )) الواردة فيه، إتاحة مجال واسع لتطاول المتطرفين والجهلة على أحكام الشريعة الغراء والفقه الإسلامي بحسبانهم (أصحاب أقوال) أو (آراء فقهية) ، فتنهال فتاوى التكفير والتفسيق والتجريم على المواطن اليمني من كل حدب وصوب ، حتى يصير ضحية لا يستطيع لها رداً ، بسبب استنادها إلى النص الإضافي الذي اقترحت لجنة تقنين الشريعة الاسلامية إضافته إلى قانون العقوبات النافذ عشية الأزمة السياسية ..
ولئن كان المشروع الانقلابي المقدم من لجنة تقنين الشريعة قد تضمن تعديلات جوهرية وضارة في قانون العقوبات النافذ بما في ذلك إضافة عدد كبير من الجرائم التي لا يوجد لها مثيل في العالم المعاصر، ومن ذلك جريمة لقاء رجل بامرأة من غير محارمه في مواقع العمل والانتاج والتعليم والجامعات والمجمعات التجارية والمؤتمرات السياسية والحزبية والصحفية والندوات العلمية ..الخ ، فإن تجريم لقاء الرجل بالمرأة في هذه المواقع سيفرض على جميع النساء العاملات والطالبات في المدارس والجامعات اصطحاب محارمهن الى العمل والدراسة والنشاط العام ، او الانقطاع عن العمل والتعليم وإخراج النساء عموما من نطاق النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي العام اذا تعذر ذلك . كما سيتم منع لقاء أي وزير بسفيرة دولة اجنبية أو ممثلة منظمة دولية اذا لم تصطحب معها محرمها بحسب ما ينص عليه المشروع الجديد الذي لا يميز بين المسلمين والمقيمين والزائرين من غير المسلمين في اليمن . وهو ما سيؤدي بالضرورة الى استحداث شرطة دينية كان الصحويون السلفيون قد سعوا اليها قبل عامين وبصورة مبكرة ، عندما طالبوا بتشكيل هيئة الأمر والنهي سيئة الصيت قبل ان يتصدى لها المجتمع المدني ويُسقطها .
وبهذا الصدد أشار البروفيسور حسن مجلي في كتابه الذي انتقد فيه المشروع المقدم من لجنة الشريعة الى إن الله سبحانه وتعالى، حينما لم يورد، فيما يخص اجتماع المرأة والرجل نصاً يحرمه، إنما أراد لنا أن نجتهد في هذا المجال لاستنباط حكم تستقيم به مصالحنا المعتبرة شرعاً.. والحكم اللازم شرعاً هنا هو إباحة الاختلاط والاجتماع بين الرجل والمرأة لضرورات الحياة ومقتضيات العمل والتعليم. فلا يجوز، بالتالي تحريم الاجتماع بينهما إلا إذا انطوى على جريمة أو كان الغرض منه ارتكاب معصية، وهنا يجب على من يدعي ذلك إثباته، لأنه استثناء من الإباحة ، موضحاً ان القول بغير ذلك هو تعسف وظلم لا يستند حتى إلى تأويل لنص ظني الدلالة، كما أنه لا يقوم على استنباط حكم لمسألة لم يرد فيها نص قطعي الثبوت.
ويرى البروفيسور حسن مجلي ان النص المراد إضافته إلى قانون العقوبات تحت عنوان ((الخلوة بأجنبية)) يشكل إهداراً للمبدأ الدستوري القاضي بأن البراءة الأصلية هي الأساس في حياة الإنسان، ومن يدعي العكس عليه الإثبات. وبناءً على ذلك، فالبراءة الأصلية الثابتة في علاقة الرجل بالمرأة، لا تزول بمجرد احتمال وجود سبب للتجريم، طبقاً لنص تجريم اجتماع الرجل والمرأة بمعنى انه تجريم مطلق لأي لقاء بين رجل وامرأة من غير محارمه ، ذلك أن المفروض شرعاً ودستوراً هو عدم التجريم كأصل، ومن يدعي العكس هو الملزم بالإثبات دون حاجة لنص قانوني .فمن يزعم أن هناك جريمة مرتبطة بوجود امرأة ورجل منفردين في مكان ما، يلزمه إثبات دعواه وتقديم البرهان على صحة بلاغه وإلا وقع تحت طائلة المساءلة والعقاب. أما أن يحظر لقاء رجل بامرأة من غير محارمه دون شهود ويُجَرَّم اجتماع المرأة والرجل مطلقاً ويصير عبء إثبات البراءة واجباً على من يتمتع بحق شرعي ودستوري هو البراءة الأصلية، فهو نقل لعبء الإثبات إلى من ليس واجباً عليه ، وتغليب لمبدأ غريب على القانون الجنائي، مفاده (أن الإنسان متهم حتى تثبت براءته)، مع أن المعلوم بالضرورة هو أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته بارتكاب جريمة ما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.