تتكاثر الصفات القاسية، تلك التي يطلقها الغاضبون من ابناء هذا العصر على عصرهم، الذي يرون انه خلا من كل صفة جميلة، وانه يبدو لهم رديئاً ورمادياً ومتوحشاً في حين رداءته او توحشه ليست من ذاته او بذاته فهو بريء كل البراءة مما يقال عنه بوصفه وعاءً لافعال البشر انفسهم فهم الذين يرسمون ما على صفحته المحايدة من اشباح والوان لا تتناسب مع ما يحلمون به والتي هي في حقيقة الامر ناتجة عن فعل فاعل وانسان العصر نفسه هو ذلك الفاعل فهل يلام الاناء اذا تلون بما يصب فيه؟ واذا كانت الصفة الجديدة التي هبطت عليه من احد الشعراء وهي «الثرثرة» فإن البشر هم الذين جعلوه كذلك او بالاحرى هم الذين يثرثرون، اما هو فما يزال يحتفظ بصمته الخالد ولم يقل بعد لا كلمة ولا حرفاً وكالنهر يواصل جريانه غير عابئ بما يقال عن رداءته وثرثرته». والشاعر الذي وصف عصرنا بالثرثرة يكاد يفصح عن حنين الغالبية من ابناء هذا العصر الى ايام او حتى الى ساعات من السكون، تتوقف معها الاصوات العالية وتهدأ الفضائيات والاذاعات ومكبرات الصوت والطائرات والقطارات والسيارات عن الثرثرة المزعجة، ليتمكن الانسان من ان يعيش الحياة في ايقاعها الهادئ البطيء بدلاً من هذا التسارع المجنون في المنزل والشارع ومكان العمل. وما اجمل ذلك الزمن الذي لم تكن ساعاته الطويلة الفضفاضة، تتقاطع مع الاصوات الخارجة من زمامير السيارات ومكبرات الصوت، لكم كان ساكناً وهادئاً وجميلاً! ونحن الكهول ادركنا بقايا من ذلك الزمن الصامت وسهرنا في ضوء القمر، قبل ان يطل علينا وجه الكهرباء، وسافرنا على ظهور الحمير والبغال قبل ان تغدو السيارات الوسيلة الوحيدة للمواصلات الداخلية. نحن ندرك اهمية هذا التغيير في حياة البشر، ونؤمن بضرورة التطور، لكننا ندرك كذلك اهمية ان يستعيد الانسان سكينة روحه، وان يخلو الى نفسه ولو بعضاً من الوقت ،لكي يستمتع بالصمت ويتلذذ بالقراءة في هدوء، ويخلو للانصات الى الاشياء بلا واسطة ولا مكبرات، ويتمنى ان يعود الى سنوات خلت لكي يصغي الى الاذان من اعلى المئذنة صافياً عذباً نقياً، كأنه قادم من السماء، وان يستمع الى الاناشيد من افواه المنشدين ،والى الموسيقى من الآلات القديمة أو الحديثة دون أن تلوثها او تخدشها تلك المكبرات الثرثارة الزاعقة التي لم تنجح سوى في تحويل الهمس الى صراخ «والدندنة» والى ما يشبه قرع الطبول. لقد افسدت الوسائل الحديثة كل شيء جميل على وجه الارض، ومنعت الانسان من التأمل الهادئ في الكائنات والاشياء، وافقدته المتعة في ملاحقه التفاصيل الكبيرة والصغيرة في الزمان والمكان، وابطأت كثيراً من تحقيق ما تحتاجه الروح من اشباع بمعانقة الهواء النقي وملاحقة الضوء الطبيعي في تموجاته، وما يتخلله من ظلال. وكم يبدو انسان اليوم بحاجة الى رؤية الارض كما كانت، قبل ان تعبث بها يد الانسان وتعمل فيها تشويهاً وتلويثاً في سبيل البحث عن منفعة عاجلة، واستجابة لرغبات خالية من اي معنى من معاني الادراك العميق لما على هذه الارض بتكويناتها الطبيعية من معالم الفرادة والجمال. ويبدو ان حنين الانسان المعاصر واشواقه الى ازمنة غابرة ومحاولة الهروب بعقله وافكاره من عصر الضجيج يترافق مع حنينه المستتر ورغبته في ان يعود الماضي الى المستقبل وعلى الرغم من يقينه بإستحالة ذلك المطلب العسير وتسليمه باختلاف الازمان وتغير اساليبها ووسائلها، فإن الاختلاف لا يقتضي الاكتظاظ بكل هذه الوسائل الصارخة والنائحة والضاحكة . والتي بات من المسلم به ايضاً انها لا تعطي اي قدر من المعرفة ولا تضيف الى حياة الانسان جديداً او تساعد على تحسين ظروف هذه الحياة ،او تعمل على تغيير مجراها نحو الافضل.. لماذا؟ لانها اولاً وسائل ترثرة جوفاء، ولانها ثالثاً لا تصدر عن هدف او نظرية وانما يأتي لسد الفراغ، فراغ هذه الوسائل الضاجة وفراغ الفضاء الذي امتلأ حتى التخمة، ولو كان ينطق لشكى وبكى. واتوقف هنا لاتذكر مع القارئ حديثاً لي مع القرويين كنت قد ذهبت اليه قبل اعوام لشراء بعض ما ينتجه من العسل الابيض «الشهد» فقال لي بألم: إن النحل يتناقص في مزرعته كما في بقية مزارع القرية وجبالها، فقلت له: لعلّ السبب راجع الى المبيدات الحشرية التي لا تقوى هذه الحشرة الجميلة على مقاوتها؟ فكان رده مخالفاً وقاطعاً بأن السبب الحقيقي يعود الى اصوات السيارات ،فقد تناقصت اسراب النحل في هذه القرية الى الربع بعد ارتفاع عدد السيارات ،وافتتان سائقيها بما تطلقه ابواقها من ثرثرات بالغة الازعاج واضاف ذلك المزارع الامي، ان النحل عندما يسمع ابواق السيارات يغادر المزرعة فوراً ويختفي هارباً الى بيوته