إن التعمق في قراءة التاريخ أمر مشوّق ومحبب للنفوس وللفكر والعقل ، خاصة التاريخ الإسلامي الذي يحكي أمجاد وبطولات المسلمين الأوائل وجوانبهم الحضارية المشرقة، وما حققوه من انتصارات اخلاقية وميدانية أبهرت العالم قديماً وحديثا. ألا وإن قمة ذلك التاريخ وأعظم تلك الانتصارات هو ما كان من مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التي كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتواصون بتعلمها وتدراسها ودراستها . وقد بلغ من حرصهم على تعليم أولادهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه أنهم جعلوها قرينة القرآن الكريم من حيث الأولوية ، يقول زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه : كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نعلم السورة من القرآن . وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عن الجميع قال : كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا ، ويقول : يا بني هذه مآثر أبائكم فلا تضيعوا ذكرها. ومن ذلك ندرك أن التاريخ العسكري من أجدر فروع التاريخ بالدراسة والتعمق والتحليل والعبرة والاستفادة العسكرية والقتالية منه . فما أحوج المسلمين اليوم لمعرفة العبرة والعظة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه. ولما كان الواجب ايجاد العقيدة العسكرية والايمانية و الاهتمام بالتربية الإيمانية . فليس معنى كف الأيدي أن تخلو قلوبهم من حب الجهاد والتشوق إليه والرغبة في بذل النفس والمال لله عز وجل. وهذه بعض فوائد دراسة السيرة النبوية – المرحلة الجهادية – 1 – إن دراسة المرحلة الجهادية في السيرة النبوية زاد نافع للدعاة والمجاهدين يشحذ الهمم ويقوي العزائم .. خاصة إذا وقفوا على الجهود العظيمة والدماء التي بذلت لإعزاز الدين ورفع راية رب العالمين 2 – إن دراسة المرحلة الجهادية للسيرة النبوية يعرّف الواحد منا قدر نعمة الهداية لهذا الدين ، ومدى الشرف بالانتساب إليه والدعوة له والجهاد لرفع رايته . 3 – معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين ، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أسوأ حال بعث فيها نبي من الأنبياء . فانتقل بهم من مرحلة إلى مرحلة حتى أكمل الله عز وجل له الدين وتمت النعمة على المسلمين ، وذلك كله بفضل الجهاد الذي بذل فيه الغالي والنفيس . 4 – معرفة المؤهلات التي أهّلت الصحابة رضي الله عنهم لقيادة البشرية ، وكيف رباهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مما يدعو إلى محبتهم والنسج على منوالهم واتباع سبيلهم . 5 – دراسة المرحلة الجهادية للسيرة النبوية تفيد المسلم الوقوف على كثير من الأحكام الفقهية والدروس التربوية والسياسة الشرعية ، فلا يستغني عنها القائد ليتعلم كيف تكون القيادة ، ولا يستغني عنها الجندي لتيعلم كيف تكون الجندية . 6 – معرفة شرف النبي صلى الله عليه وسلم ويكف عصمه الله عز وجل من الناس وكيف نزلت الملائكة تقاتل معه يوم بدر والأحزاب وحنين ، وكيف نزل جبريل وميكائيل يدافعان عن شخصه الكريم يوم أحد . 7 – معرفة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ، فمن أسباب النصر الثقة بالله عز وجل والتوكل عليه والتضرع إليه والأخذ بالأسباب الموصلة إلى النصر .. ومن أسباب الهزيمة ما حدث يوم حنين ويوم أحد من التطلع إلى الدنيا و الاغترار بالكثرة . الفرق بين الغزوة والسرية: إن الفرق بين الغزوة والسرية والبعث؛ هو أن كل ما خرج فيه صلى الله عليه وسلم بنفسه يسمى عند الجمهور غزوة، وقع فيه قتال أم لا، وعدد غزواته صلى الله عليه وسلم بلغت سبعًا وعشرين غزوة. أما لم يخرج فيه صلى الله عليه وسلم بنفسه فيسمى بعثًا أو سرية ولا ينحصر في عدد معين بل ربما بعث صلى الله عليه وسلم رجلاً واحدًا. وقد بلغت خمسًا وثلاثين، وقيل أربت على الخمسين. قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمريسيع وخيبر والفتح وحنين والطائف، ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم قاتل أيضًا في بني النضير ووادي القرى، والغابة. وقاتلت معه صلى الله عليه وسلم الملائكة منها في بدر وحنين وأحد على خلاف في الثالثة. ونزلت الملائكة يوم الخندق فزلزلوا المشركين وهزموهم. وقاتل بالمنجنيق في غزوة واحدة وهي الطائف. وتحصن صلى الله عليه وسلم بالخندق في واحدة وهي الأحزاب، أشار به عليه سلمان الفارسي . – أهم أهداف الغزوات والسرايا النبوية: كان الذين يزعجهم النور يسعون جاهدين لإطفائه فيتعرضون في كل مكان للدعوة القرآنية، وعندما يتمكنون من القبض على أي مسلم سرعان ما كانوا يقتلونه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه حمل مشعل الدعوة وإزاحة كل العقبات من طريقها، لذا هيأ هذه السرايا وبعثها إلى جميع الجهات، وكان عدد أفرادها لا يقل عن العشرة ويتجاوز المائتين، وكانت الغاية من هذه السرايا الوصول إلى بعض الأهداف المعينة، بعد استقصاء الأخبار وجمع المعلومات وإيصالها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهم تلك الأهداف هي كالآتي: 1- الإشعار بوجود الكيان الإسلامي: أي إشعار الجميع بوجود الإسلام وبكيانه بالمدينة، وأن المشركين وإن أخرجوا المسلمين من ديارهم في مكة، وأخذوا أموالهم، وعذبوهم، إلا أنهم لم يستطيعوا إطفاء نور الإسلام، وفق سنة الله الأزلية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهٖ وَلَوْ كَرِهَ الْكٰفِرُونَ﴾ (سورة الصف: 8). إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يظهر لهم أن ظلام الجاهلية الأولى في تلك الصحراء الموحشة المظلمة لن يستطيع إطفاء نور الله. 2- إظهار أن الهيمنة للحق: يريد أن يبرهن على أن الحكم ليس لكفار قريش فقط الذين اغتصبوا حق الإنسانية واستغلوها واستعبدوها، بل إن لممثلي الحق حصَّة من الحكم ونصيبًا، وسيأتي يوم تخضع فيه القوة بكل ما لديها من عدة وعتاد للحق وتستسلم له، وحينئذ ستكون الكلمة في الأرض بيد الحق وحده، ويسود وحده، ويرث المسلمون الأرض، ويستخلفهم الله فيها. فتحقق هذا في الفتح الأعظم لمكةالمكرمة، وخضعت كل الأمم للإسلام. 3 - حماية الدعوة الإسلامية وتأمين انتشارها: يقول المفكر الإسلامي الكبير «فتح الله كولن» – حفظه الله- في درته النفيسة وجوهرته الغالية «النور الخالد»: إذ حيل بيننا وبين حريتنا في نشر الحق والحقيقة والفضيلة والاستقامة، فإن الإسلام يبيح لنا الحرب من أجل الحفاظ على تلك الحرية وتأمينها. يرجى الانتباه هنا رجاء.. نحن لا نقول بأن الحرب تكون من أجل نشر الحق والحقيقة، بل نقول إن تمت الحيلولة دون حرية نشر الحق والحقيقة عند ذلك يتم إعلان الحرب. وعليه، فبفضل تلك السرايا التي كانت تصول وتجول هنا وهناك، وبفضل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، استطاع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يمسك بالنظام والانتظام في يده، وأن يرسل الدعاة والمبلغين والمرشدين إلى كل مكان، وأن يؤمن تجولهم بين المدن والقرى دون خوف أو وَجَل، ويهيء لهم جوًا هادئًا بعد إزاحة كل العقبات من طريق الدعوة، لكي يقوموا بمهماتهم في التبليغ. كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في الغزوات ويرسل السرايا بشكل مستمر للمناطق المحيطة بالمدينة من أجل هذه الأهداف، ففي بضعة أشهر كانت هذه السرايا تظهر في أماكن بعيدة لم يكونوا يقطعونها آنذاك إلا خلال شهر، أو تظهر بمعركة بمكة، وكأنهم أشباح أو ملائكة ظهرت ثم اختفت بسرعة، مخلفة وراءها الرعب عند العدو الذي بدا وكأنه يُسحب إلى معركة بدر وهو مشلول من الخوف. 4- إقرار الأمة وبسط السلام في الأرض والدفاع عن المستضعفين ،كان النهب والسلب سائدًا في تلك الأيام في الصحراء، فالحق للقوة، ولم يكن للضعيف وللمظلوم حق الحياة، فالذي يملك القوة كان يستطيع سحق الآخرين. فانتشرت السرايا في كل مكان، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائدًا مجموعة من الغزوات صلى الله عليه وآله وسلم مما حال دون أن يتعرض أي شخص لماله ولا لعرضه، ولا لشرفه، ولا لنفسه . وهكذا عرف الجميع بشكل جيد بأن الصحراء لم تكن ملكاً لمشركي قريش وحدهم، بل إن لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصيبًا وحصة وحقًا، وسيزداد هذا الحق على مر الأيام ويكبر كما انتشر النور حتى يكون له في كل بيت وفي كل قلب أثر كما كان من أهداف هذه الغزوات والسرايا النبوية رد العدوان، والدفاع عن النفس وتخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان، إلى نظام العدالة والإنصاف، ومن نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه، وإطفاء نار الفتنة ورد البغي، وكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتطهير الأرض من الغدر والخيانة والإثم والعدوان، وبسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة.