في قسم التصحيح اللغوي بصحيفة 26 سبتمبر بصنعاء, كنت أعمل مصححا لغويا, ولم تكن مواضيع الأستاذ الشاعر الكبير والأديب والفيلسوف العظيم الراحل عبدالله البردوني بحاجة لمصحح لغوي بقدر ما كانت بحاجة لمطابقة ما طبع منها في الصحيفة مع ما جاء بخط يد من كان يكتب للأستاذ, فكنت أول من يقرأها .. وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي, وذات يوم اتصلت به لأعرض عليه قصيدة عاطفية بعنوان ( خان الحبيب ) متأثرا بقصيدة الشاعر المصري الكبير " كامل الشناوى " ( لا تكذبي إني رأيتكما معا).. أسمعته إياها بالهاتف ومن أبياتها : إن الخيانة بانتْ من أناملهِ ورودُ خديْك مازالتْ بكفيهِ لا تقسميْ هذه الجدران لو أمنتْ أذاكِ تخزي دعاواك وتخزيهِ إنْ لم تكوني فمنْ أخرى سواك؟ إذاً ما كان شَعرُك يصنعُ فوق كتفيهِ ألستِ من خنجرتْ حسناً يزينها وأسكنتْ حدّهُ في حلق شاديهِ بل أنت أنتِ التي مدت بنيتها جسراً لنيةِ شيطان ليمشيهِ حتى إذا مادنا كاللصِ منكِ وقدْ أصبحتِ أدنى إليهِ من ذارعيهِ لواك مثل حزامٍ حول قامتهِ كمغزلٍ والتوى خيطٌ حواليهِ إلى آخر القصيدة ... التي تقول: خان الحبيبُ فهل أنسى خيانتهَ .. أم ألعنَ الحبَ أم بالصمتَ أبكيهِ ما عدت أدريْ فلي قلب اذا ذرفتْ عيناه بالدمع ما جفتْ سواقيهِ فاستوقفني الأستاذ البردوني وقال " ماذا قلتَ " فقلتُ " حواليهِ " فاستنكر " كلمة حواليهِ " في القصيدة وهو يقول " حواليه .. حواليه " ففهمت أنها لم تعجبه, فتوقفت عن نظم الشعر لأشهر حتى وإن كانت القصيدة تلح علي لكتابتها. وقبل نحو عام من وفاة البردوني كنت في جلسة مقيل قات في منزل المذيع التلفزيوني أنور الأشول فطلعت في رأسي فكرة مجنونة عرضتها على أنور واتفقنا على تنفيذها معا كمشروع أدبي كبير لم يسبقنا إليه أحد, واتصلت هاتفيا لحظتها بالأستاذ البردوني إلى منزله عارضا عليه المشروع وهو " أن أجري سلسلة حوارات تلفزيونية مفتوحة معه رغم أني لست مذيعا بحيث يقول فيها مالم يقله من قبل سواء كان ذلك شعرا أو مما نشره في كتبه أو في الصحف والمجلات أو أذيع في الإذاعة, ويكشف فيها أدق الأسرار ونتناول كل شيء شخصي أو سياسي أو ثقافي أو اجتماعي .. وقلت له لكن هذا المشروع إذا ما أنجزناه سيظل طي الكتمان, بحيث إذا أمد الله في عمرك وتوفيت أنا يصبح ملكا لك تنشره متى ما أردت وإن توفاك الله وأمد الله في عمري يصبح المشروع لي ويكون لي حق نشره أو حق بيعه لأي قناة تلفزيونية فقال وأنا موافق .. وبدأت بالفعل بقراءة متعمقة لدواوينه الشعرية ولكتبه ومعظم ما كتبه لأخرج بقائمة طويلة من الأسئلة, ولكن توفي الأستاذ البردوني في 30 أغسطس عام 1999م قبل أن ننجز المشروع ولم نتمكن من تسجيل حوار واحد, لأن المرض ألم به واتصلت به أذكره بالمشروع فرد علي من رد من منزله بأنه يتأهب للسفر للعلاج في الأردن, وبعد عودته من الأردن اتصلت به فقيل لي أنه مريض, وبعد أيام توفي رحمة الله عليه, ولقد كان من حسنات ذلك المشروع الذي لم يتم أني قرأت معظم ما كتبه الأستاذ البردوني مرة ومرتين وثلاثا ومازلت أقرأ البردوني إلى اليوم, ويبدو أن ذلك كان هو المشروع الذي قدر لي أن أقرأه لأفهمه جيدا, وأفهم أن البردوني لن يتكرر .. فهو بردوني واحد, مثلما هناك متنبي واحد وأبو تمام واحد .. بيت شعر للبردوني يمثل قصيدة والقصيدة ديوان والديوان مكتبة.