في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان في بلادنا شركة إتخذ عمالها عبارة: “صناع الكلمة وجنود التثقيف” شعار لهم، وقد تم وضع هذه العبارة بخط بارز على اللوحة التعريفية للشركة وعمالها أثناء العروض في عيد العمال سنوياً، وكان نصها: “عمال الشركة اليمنية للطباعة والنشر صناع الكلمة وجنود التثقيف”. الشركة كانت تضم في قوام عامليها كوكبة من الفنيين المطبعيين، ولصعوبة تذكرهم جميعاً، فلن أذكر منهم إلا صاحب المقام الذي دفعني رحيله الهادئ إلى الرفيق الأعلى إلى كتابة هذه الخاطرة، وهو الزميل عبدالله سعد الروضي، والذي كان أحد صناع الكلمة وجنود التثقيف في هذه الشركة. ولابد هنا أن أذكر ان الزميل عبدالله الروضي قبل ان يلتحق بالشركة اليمنية للطباعة والنشر كان أحد موظفي وزارة الإعلام منذ الايام الأولى لقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، كغيره من العاملين في إحدى المطابع التابعة للحكومة والاعلام في محافظة إب.. والتي ليس عندي معلومات عنها أكثر من هذا. عبدالله سعد الروضي تم نقله من مطابع محافظة إب الى مطابع صحيفة الجمهورية في محافظة تعز.. وظل يعمل فيها لزمن لا أعرف مدته بالضبط.. ولكني علمت من الراحل عبدالله الروضي نفسه، أنه انتقل بعدها للعمل في الشركة اليمنية للطباعة والنشر كعامل مطبعي منقولاً من وزارة الإعلام، دون ان يحتسب له أية حقوق أو احتساب لفترة الخدمة التي عملها مع الوزارة. مرت بضع سنين حتى منتصف يونيو 1976م تقريباً الذي فيه تعرضت الشركة لحريق التهم كل آلات الشركة وموادها المطبعية، وأدى إلى استشهاد أحد العاملين واصابة عدد من العاملين بحروق متوسطة وخفيفة.. (وكان يقال حينها ان مطابع الشركة هي أضخم وأحدث مطابع على مستوى الشرق الأوسط).. حادث الحريق دفع الأجهزة الأمنية إلى اعتقال أغلب العاملين والموظفين في الشركة، التي كان على رأسها في تلك الفترة الاستاذ أحمد محمد هاجي، والاستاذ مالك الارياني، والاستاذ أحمد الأبيض، وكانوا الثلاثة على رأس قائمة المعتقلين. وطبعاً الاعتقالات لم تكن تعسفية أو أنه تم انتقاء أشخاص ليتم اعتقالهم وترك آخرين، بل انني اجزم ان الاعتقالات قد عمت الجميع ولم يستثن إلا بضع الاشخاص، ولم تطل فترة الاعتقال، فبمجرد اجراء التحقيق مع أي عامل كان يتم اطلاق سراحه على أن يبقى في صنعاء لعند الطلب، هذا بالنسبة للعمال، أما بالنسبة للإداريين وعلى وجه الخصوص قيادة الشركة فقد استمر اعتقالهم لفترة طويلة ولا أعرف مدتها بالضبط. كان من الطبيعي ان يتم تسييس حادث الحريق للشركة لأنها كما ذكرت كانت المطابع الاضخم والأحدث في الشرق الأوسط، هذا أولاً.. وثانياً لأنها كانت المطابع التي تطبع فيها صحيفة الثورة اليومية الجريدة الناطقة باسم ثورة 26 سبتمبر والجمهورية العربية اليمنية. المهم أن حريق الشركة كانت له تبعات كارثية على جميع العاملين والموظفين في الشركة، وقد أدى ذلك إلى تشردهم، والزميل المرحوم عبدالله الروضي واحداً منهم. حاولت الحكومة ترميم ما تبقى من الآلات التي تعرضت للحريق، وتم تجميع بعض العاملين لإعادة الحياة إلى الشركة وآلاتها، وحقق العمال في ذلك نجاحاً كبيراً، وبدأت الآلات تدور وتنتج والزميل عبدالله سعد الروضي أحد مشرفي الانتاج، وكادت الشركة ان تستعيد عافيتها وتقف على قدمين صلبتين، إلا ان الفساد حال دون ذلك وأدى إلى إعلان افلاس الشركة وتصفيتها، وبيع ما تبقى من آلات ما زالت تعمل إلى يومنا هذا في بعض المطابع الأهلية التي دخلت مزاد بيع أصول الشركة، وعلى ضوء التصفية تحصل العاملين على فتاة من الحقوق وتم تركهم للضياع والتشرد.. وتوزع بعض منهم للعمل في مطابع مؤسسة سبأ للصحافة والطباعة والنشر التي انشئت حديثاً والبعض الآخر عاد للعمل في مطابع الجمهورية بمحافظة تعز، والبعض الآخر التحق للعمل بمطابع دائرة التوجيه المعنوي. كان كاتب السطور والفقيد الراحل عبدالله سعد الروضي ضمن من التحقوا للعمل بمطابع دائرة التوجيه المعنوي، ورغم ان الآلات في التوجيه حينها كانت بدائية وقليلة إلا انها قد أنجزت بالعاملين عليها أعمال عظيمة، وكان الفقيد الروضي مشرف الانتاج والمتابعة في المطابع. تطورت المطابع في إطار تطور دائرة التوجيه المعنوي وامتلكت أحدث آلات الطباعة، وكان يفترض ان يصاحب ذلك تحسين مستوى العاملين، إلا ان ذلك لم يكن في اهتمامات قيادة الدائرة.. ورغم ان قيادة الدائرة كانت مهتمة كثيراً بايجاد أحدث الآلات وتأهيل العاملين عليها.. إلا أنها تجاهلت حقوق العاملين ولم تُحَسِن من اوضاعهم ومستوياتهم المعنوية والمادية.. وكان الفقيد الراحل عبدالله سعد الروضي على رأس العاملين الذين تم تجاهلهم، وتجاهل تحسين أوضاعهم مادياً ومعنوياً. عبدالله سعد الروضي عمل في مطابع دائرة التوجيه المعنوي منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي وإلى آخر أيام حياته، وان كان حضوره في آخرها حضور (تمام) لكي يضمن الحصول على المستحقات لأن المرض كان قد انهك جسده وجعله شبه عاجز عن العمل.. صانع الكلمة وجندي التثقيف، عبدالله سعد الروضي، عمل بصمت إلى أن رحل بهدوء.. ولم يسجل أنه أساء إلى زميل أو أسيئ اليه من زميل.. فقد عاش محبوباً يحترم زملاؤه ويحترمه ويحبه زملاؤه. رحمة الله تغشاه.. إنا لله وإنا إليه راجعون.