يعد فتح مكة لحظة فارقة في تاريخ المسلمين بل في تاريخ العالم، فمتى فتحت مكة؟ وما أسباب هذا الفتح؟ وما الدروس والعبر من فتح مكة؟ كل الظروف مهيأة لفتح مكة عدة عوامل ساعدت المسلمين في القيام بهذا الفتح العظيم لمكةالمكرمة؛ وهي: 1 - الوضع السياسي والعسكري للمسلمين قبل فتح مكة: كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين قبل فتح مكة قويًّا فعلاً، فأعداد المسلمين تتزايد والجيش الإسلامي مدرب تدريبًا جيدًا، وليس تدريبًا في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل مع الرومان في مؤتة، وكانت معنويات الجيش الإسلامي في السماء كما رأينا، فقد رُفعت معنويات الجيش الإسلامي، وارتفعت سمعة المسلمين على مستوى الجزيرة العربية، بل على مستوى العالم كله.
2 - الوضع العسكري والسياسي لقريش قبل فتح مكة: على الجانب الآخر كان الوضع العسكري لقريش ضعيفًا، ويزداد ضعفًا مع مرور الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى هذا من عامين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: «إن قريشًا قد وهنتهم الحرب وأضرت بهم». وبعد رجوع الأحزاب إلى قبائلهم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم»؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح.. والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في مصلحة قريش؛ إذ رأينا المسلمين يتزايدون، وكل رجل أو امرأة يتحول من الكفر إلى الإيمان هو إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت نقص في الدولة الكافرة.. فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان سببًا في انتصار غزوة أحد، انضمَّ إلى المعسكر الإسلامي، وكان مكسبًا كبيرًا جدًّا، وإضافة هائلة للدولة الإسلامية.. وعمرو بن العاص وهو من أعظم دهاة العرب، فقدت قريش قوته وأضيفت قوته للمسلمين، وكذلك عثمان بن طلحة ليس من الفرسان الأشداء فقط، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة، وإضافته للدولة الإسلامية إضافة في غاية القوة.
3 - واجب المسلمين الأخلاقي والديني والسياسي في القيام فتح مكة: كان هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين في أن يقوموا بفتح مكة، هناك واجب أخلاقي برفع الظلم عن المظلومين؛ فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تترك هكذا، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقيًّا فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني؛ أي فُرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة، لأنه التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية.
وعلى الفور اختارت قريش أبا سفيان ليذهب إلى المدينةالمنورة ويطلب العفو من النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان هو سيد مكة وزعيمها، وهو ليس مجرد سفير ترسله مكة، ولكنه زعيم مكة، وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل وحروب متتالية مع المسلمين. وهنا يتنازل أبو سفيان عن كبريائه، وعن كرامته، ويذهب إلى المدينةالمنورة، ويطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل الهدنة مع قريش.
خروج الجيش الإسلامي وظهور بشريات النصر ولكن مجيء أبي سفيان لم يغير من الأمر شيئًا.. خرج المسلمون بالفعل من المدينةالمنورة، وكان هذا الخروج في العاشر من رمضان سنة 8ه، واتجهوا مباشرة إلى مكةالمكرمة، وفي الطريق بدأت بشريات النصر تهبُّ على المسلمين؛ إذ لقي المسلمون العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أحب الناس إلى قلبه مهاجرًا قبل أن يصل الرسول إلى مكةالمكرمة؛ وذلك أسعد الرسول، وسُرَّ سرورًا عظيمًا برؤية العباس، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسوف يكون له دور إيجابي في فتح مكةالمكرمة. وأكمل الرسول الطريق فوجد المسلمون أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية، أحدهما ابن عم رسول الله، والثاني ابن عمة الرسول، وكانا من أشد الناس على رسول الله، وجاءا من مكةالمكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومن شدة إيذائهما للرسول رفض في البداية أن يقابلهما، ولولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وكانت مصاحبة لرسول الله في الفتح- قد توسطت لهما، فقابلهما وأعلنا التوبة الكاملة بين يديه.. وهذه كانت بشريات لفتح مكة. وصل الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- إلى مر الظهران، ومر الظهران تبعد عن مكةالمكرمة حوالي اثنين وعشرين كيلو مترًا، وهناك التقت القبائل المختلفة من قبائل فزارة، ومن قبائل بني سليم، ومن غطفان، ومن مزينة، ومن جهينة، ومن كل مكان عشرة آلاف جندي.. فالوضع عند مر الظهران هو نفس الوضع في غزوة الأحزاب، ولكن بصورة معكوسة، وتلك الأيام نداولها بين الناس؛ فمنذ ثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو نفس العدد، ولكن شتَّان بين الفريقين.
دخول مكة وعفو الرسول ثم دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا عند منطقة في جنوب شرق مكة اسمها منطقة الخندمة، وتزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش، وقاتلوا في هذه المنطقة خالد بن الوليد رضي الله عنه بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد رضي الله عنه صديقًا قديمًا وحميمًا لعكرمة بن أبي جهل ولصفوان، إلا أنه كان متجردًا تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديدًا رائعًا تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى سارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفارٍّ، وهرب صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل من مكةالمكرمة، وخمدت المقاومة تمامًا، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر -عليه الصلاة والسلام- يدخلها آمنًا مطمئنًا عزيزًا، ويضرب الرسول للعالم مثلاً إسلاميًّا في الصفح يبقى إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن». ومن عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم إعلاء شأن أبي سفيان عند فتح مكة؛ إذ خص الرسول -عليه الصلاة والسلام- أبا سفيان بخصيصة تجعله متميزًا على أقرانه من أهل مكة، وأعطاه رسول الله شيئًا بلا خسارة، ويكسب قلب أبي سفيان بإعطائه شيئًا يفخر به، وهو شيء ينفع ولا يضر. ولعل هذه هي لحظات السيرة النبوية التي مسحت آثار رحلة طويلة من المعاناة والألم، وهي اللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة.. وسار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة؛ ليبدأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة، وربانية التشريع، وليرسِّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57].