قد يبدو للبعض أن توجه بعض الأنظمة العربية الوظيفية نحو نزع سلاح قوى الجهاد والمقاومة نابع من إدراك هذه الأنظمة أن هذا السلاح يمثل خطراً على بنيتها ووجودها، غير أن الحقيقة الأعمق والأكثر إغفالاً تكمن في أن هذا المسار ليس إلا جزءاً من استراتيجية أمريكية إسرائيلية غربية أشمل، هدفها الرئيس إبقاء التفوق العسكري الإسرائيلي قائماً وتكريس إضعاف الطرف العربي بكل الوسائل المتاحة. فمنذ إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، كانت بريطانيا ومعها الغرب قد وضعوا اللبنات الأولى لتسليح الكيان الصهيوني وتمكينه، إذ سلمت بريطانيا ما بحوزتها من أسلحة في فلسطين إلى العصابات اليهودية بعد إعلان قيام الدولة المزعومة، في الوقت الذي زودت فيه الجيوش العربية بأسلحة فاسدة ومنتهية الصلاحية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل لعب الضابط البريطاني جون غلوب دوراً محورياً في منع توحيد الجبهات العربية خلال حرب 1948، الأمر الذي ساهم في الهزيمة وترسيخ وجود الكيان الصهيوني على الأراضي العربية المحتلة. ومنذ تلك اللحظة، استمر الدعم العسكري الغربي للكيان الإسرائيلي بوتيرة متصاعدة حتى بلغت قدراته العسكرية مستوى يفوق قدرات الدول العربية مجتمعة، كما ساهم الغرب بشكل كبير في إنشاء وتطوير المشروع النووي الإسرائيلي، بينما عمل في المقابل على إبقاء الجبهة العربية في حالة ضعف دائم تبرر حاجتها إلى "الحماية" الغربية. ومن أجل ذلك، أبرمت العديد من الدول العربية اتفاقيات حماية مع القوى الغربية، تضمنت إقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، وفرضت قيوداً صارمة تمنعها من امتلاك أسلحة نوعية، في مقابل الاعتماد على وجود القوات الغربية لحمايتها. والأدهى أن عقود التسليح التي أبرمت مع الغرب تضمنت شروطاً صريحة أو ضمنية تمنع استخدام هذه الأسلحة ضد إسرائيل، لتصبح الجيوش العربية رهينة الإرادة السياسية للدول الموردة. كما استخدم الغرب أدوات المعونات والمساعدات العسكرية كآلية للتحكم، حيث يتم إنفاق الجزء الأكبر من هذه المساعدات على التدريب والتأهيل العسكري الذي تتولاه الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول الغربية، تدريبٌ غالباً ما يبقى دون المستوى المطلوب لتهيئة الجيوش العربية لمواجهة الكيان الصهيوني. ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، دخلت الولاياتالمتحدة في مرحلة جديدة من إعادة تشكيل البيئة العسكرية العربية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، فدمرت منظومات دفاعية بكاملها، كما جرى في اليمن حيث أُبيدت منظومة الدفاعات الجوية، واستُهدفت قدرات العراق حتى تم احتلاله وإخراجه نهائياً من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وأُفشل البرنامج النووي الليبي قبل الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي. وتوازياً مع ذلك، استُخدمت اتفاقيات التطبيع كوسيلة لتحويل الأنظمة العربية الوظيفية إلى ما يشبه الأسوار الأمنية حول الكيان الصهيوني، بحيث باتت هذه الأنظمة تبادر إلى قمع أي صوت يدعو لمواجهته، وتربط أمنها وبقاءها بأمنه بشكل مباشر. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سعت الولاياتالمتحدة والغرب وإسرائيل إلى حرف بوصلة العداء بعيداً عن الكيان الصهيوني وتوجيهها نحو محور الجهاد والمقاومة، وعلى رأسه إيران، وتصوير هذا المحور باعتباره سبب عدم الاستقرار في المنطقة، في الوقت الذي يجري فيه تجاهل التهديد الإسرائيلي الوجودي للأمة العربية. إن حركات الجهاد والمقاومة لم تكن يوماً نتاجاً لإرادة الأنظمة العربية، بل جاءت كتعبير شعبي ثائر في مواجهة تخلّي تلك الأنظمة عن أبسط واجباتها تجاه قضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. فباستثناء منظمة التحرير الفلسطينية التي أُلحقت رسمياً بالمحور العربي الرسمي وسارت في ركاب الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، ظهرت قوى المقاومة خارج السياق الرسمي وبمنأى عنه، بل وفي تحدٍ مباشر له. تأسست هذه القوى دون أي ضوء أخضر من الحكومات، بل في مواجهة مباشرة لممانعتها ورفضها، وهو ما جعل الأنظمة الوظيفية تنظر إليها كتهديد وجودي لنفوذها القائم على الطاعة والارتهان، فتحولت إلى رأس الحربة في محاربتها، وتبنت دور الحارس الأمين لأمن الاحتلال، متقدمة بخطوط الدفاع الأولى عن الكيان بدلاً من أن تكون في خندق المواجهة مع المشروع الصهيوني. لهذا، لم يكن مستغرباً أن تتبنى هذه الأنظمة حملات متكررة لاستهداف قدرات المقاومة، سواء بشكل مباشر أو عبر حروب وكالة نيابة عن الولاياتالمتحدة وإسرائيل. فالقرار الأخير للحكومة اللبنانية بسحب سلاح المقاومة لا يخرج عن السياق ذاته الذي شهدناه في قرار سلطة أوسلو نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، أو في محاولات متكررة داخل العراق لتجريد الحشد الشعبي من سلاحه، وهو نفسه الهدف الذي سعت السعودية لتحقيقه عبر عدوانها على اليمن لتدمير قدراته العسكرية. القاسم المشترك بين كل هذه التحركات أنها ليست تعبيراً عن إرادة وطنية أو عربية مستقلة، بل استجابة صريحة أو مبطنة لإملاءات أمريكية وصهيونية تهدف إلى نزع أسلحة القوى التي تشكل عنصر ردع وتهديد حقيقي للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، وإعادة تشكيل الخريطة بما يخدم أمن الكيان وهيمنة واشنطن على مقدرات الشعوب. لم تتوقف المحاولات العربية لاستهداف المقاومة باستهداف أسلحتها، بل عملت على استهداف الهوية العربية الجامعة، ففي الوقت الذي تسعى فيه معظم دول العالم إلى حماية هويتها الوطنية وتعزيز شعور الانتماء لدى شعوبها باعتباره ركناً من أركان القوة والتماسك الداخلي، نجد الأنظمة العربية الوظيفية تسير في مسار معاكس تماماً، إذ تعمل على تفريغ الهوية العربية من مضمونها وتجريد الشعوب من انتمائها الثقافي والحضاري، ما يتركها عرضة للتخبط والتيه، بلا قضية جامعة ولا مشروع نهضوي حقيقي. وتزداد خطورة هذه السياسات في ظل تحديات وجودية تواجه الأمة العربية، في مقدمتها عدو نرجسي لا يعترف بغيره، ولا يرى في الآخرين سوى أدوات يسهل إخضاعها والتعامل معها بمنطق التفوق والهيمنة. وبينما تتحصن الشعوب بهويتها لمواجهة هذا الخطر، تنشغل أنظمتها للأسف بتفكيك حصونها الداخلية خدمةً لأجندات تتقاطع تماماً مع مشاريع الهيمنة والتطبيع والاحتواء.