لقمان عبدالله .. يمثّل اعتراف رئيس وزراء العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ب«أرض الصومال» (صوماليلاند) تتويجًا لمسار طويل ومعقّد من العلاقات السرّية التي نُسجت بعيدًا عن الأضواء؛ وهو يأتي ضمن مشروع إقليمي أوسع لإعادة رسم خرائط النفوذ في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، بما يخدم مصالح تل أبيب وحلفائها الموثوقين، وعلى رأسهم أبو ظبي. والواقع أنه لا يمكن فصل الخطوة الإسرائيلية عن التحرّكات الإماراتية المتنامية في الإقليم، سواء عبر دعم سيطرة «المجلس الانتقالي الجنوبي» على شرق اليمن، أو عبر أدوار غير مباشرة في الساحة السودانية. فهذه الساحات، وإن كانت منفصلة ظاهريًا، تبدو أقرب إلى مسرح عمليات واحد، تقود فيه إسرائيل، بالشراكة مع الإمارات، محاولة إعادة هندسة أمنية وسياسية؛ وهو ما دلّ عليه بوضوح حديث قناة «آي 24 نيوز» الإسرائيلية الناطقة بالعربية، نقلاً عن مصادر مطلعة، عن مشاركة الإمارات في المحادثات التي أدّت إلى الاعتراف الإسرائيلي ب«أرض الصومال». وبحسب معطيات متقاطعة، تولّى جهاز «الموساد» الإسرائيلي، بقيادة مديره ديفيد برنياع، إدارة مسار سرّي لسنوات مع «أرض الصومال» - بعيدًا من أي غطاء إعلامي أو ديبلوماسي معلن - شمل تنسيقًا استخباراتيًا وتفاهمات أمنية، وتمهيدًا سياسيًا للاعتراف. وتزامنت هذه الخطوة الأخيرة مع تصاعد القلق في تل أبيب من تنامي القدرات العسكرية لحركة «أنصار الله» في اليمن، لا سيما في مجال الصواريخ والطائرات المسيّرة والتهديدات البحرية، وما فرضته هذه القدرات من معادلات ردع جديدة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن إسرائيل، شأنها شأن الولاياتالمتحدة، تولي اهتماماً بالغاً ل«أرض الصومال»، نظراً إلى ساحل الأخيرة الممتدّ، وموقعها الاستراتيجي في القرن الأفريقي، وقربها من المناطق الخاضعة لسيطرة «أنصار الله». واعتبرت الصحيفة أن «تعزيز العلاقات مع أرض الصومال يمثّل عامل مُضاعفة للقوة في الحرب ضد الحوثيين»؛ علماً أن وزير شؤون الشتات الإسرائيلي، عميحاي شيكلي، كان قد أكد أن «الخطوة تُعدّ إنجازًا كبيرًا في مواجهة الحوثيين». ومن جهتها، رأت صحيفة «معاريف» أن فائدة الاعتراف «لا تكمن في الجانب الديبلوماسي، بل في موقع أرض الصومال الجغرافي، فميناء بربرة، الواقع على شواطئ خليج عدن، والمطار القريب منه، الذي يضمّ أحد أطول مدارج الطائرات في أفريقيا، يضعان هذا البلد في نقطة (إشراف) محورية على أحد أهم الممرات الملاحية في العالم». وفي ما يتصل بهذا الجانب تحديداً، يبدو أن القرار الإسرائيلي مرتبط أيضًا بحاجة تل أبيب الملحّة إلى إيجاد بدائل استراتيجية تضمن أمن الملاحة وحماية خطوط التجارة والطاقة الحيوية، خصوصاً في ظلّ تراجع فعالية الأدوات العسكرية التقليدية في مواجهة التهديدات المتزايدة من جانب اليمن. كما إن الاعتراف يندرج ضمن مسعى إسرائيلي إلى توسيع نطاق «اتفاقيات أبراهام» في اتجاه القارة الأفريقية، حتى لو عبر كيانات غير معترف بها دوليًا، وذلك في محاولة لفرض وقائع سياسية وأمنية جديدة هناك، واستباق أي ترتيبات إقليمية قد تُقصي إسرائيل عن معادلات البحر الأحمر والقرن الأفريقي. الاعتراف الإسرائيلي يستفز مصر والسعودية وتركيا وفي ردود الفعل على الخطوة الإسرائيلية، برز وصف رئيس وزراء تركيا الأسبق، أحمد داود أوغلو، لها بأنها استهداف مباشر لمصالح مصر والسعودية وتركيا في المنطقة، وعدُّه إياها جزءًا من استراتيجية أوسع لتفتيت الدول الإسلامية وتحجيم دول رئيسية عبر تطويقها. ذلك أن إسرائيل لا تتطلّع فحسب إلى تقسيم الصومال، أو إلى إشعال حرب داخلية قد تشهد فظائع جماعية شبيهة بتلك التي يشهدها السودان، بل تريد أيضًا الوصول إلى ميناء بربرة ذي الأهمية الاستراتيجية البالغة، والواقع على مصب البحر الأحمر في خليج عدن، بما يؤدّي فعليًا إلى محاصرة مصر والسعودية، فضلاً عن تركيا التي تمتلك قاعدة استراتيجية بالغة الأهمية في الصومال، تُعدّ حيوية لسياستها تجاه القارة الأفريقية. وانطلاقاً من ذلك، ورغم الخلافات الحادّة في ما بينها، سارعت الدول العربية والإسلامية إلى إصدار بيان مشترك يرفض الاعتراف الإسرائيلي، في ما يعكس إدراكًا جماعيًا لكون تداعيات الخطوة تمسّ مصالح بنيوية مشتركة. فالدول الموقّعة على البيان وجدت نفسها أمام سابقة خطيرة تهدّد مبدأ وحدة الدول، وتفتح الباب أمام شرعنة الكيانات الانفصالية، وهو مسار يحمل انعكاسات مباشرة على استقرار المنطقة برمتها، ويمثل إنذارًا باحتمال استغلال الانقسامات الداخلية في البلدان الهشّة من أجل تفتيت وحدتها. وفي المقابل، لم يكن مستغربًا أن تمتنع الإمارات والبحرين عن الانضمام إلى البيان؛ إذ إن دورهما لا يمكن فصله عن مشاريع هندسة المنطقة وفق رؤية «الشرق الأوسط الجديد» الذي دائمًا ما بشّر به نتنياهو. والجدير ذكره هنا أن الإمارات بذلت جهودًا سابقة للحصول على اعتراف دولي ب«أرض الصومال» عبر الأممالمتحدة، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل. وأتت تلك المساعي في إطار استراتيجية بناء «إمبراطورية نفوذ» إماراتية، تعتمد على السيطرة على الموانئ البحرية والممرات الحيوية (بما فيها البحر الأحمر وخليج عدن) والقواعد العسكرية، وتأمين طرق التجارة والطاقة الدولية بالتنسيق مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وإذ ترتكز الاستراتيجية الإماراتية على شركتي «موانئ دبي العالمية» و«موانئ أبو ظبي»، اللتين تعملان كذراعين تجاريين واستراتيجيين للإمارات، فقد استطاعت الأخيرة من خلال ذلك السيطرة على شبكة من الموانئ الحيوية الممتدّة حول القارة الأفريقية وشبه الجزيرة العربية. وفي هذا السياق، يعكس الاستثمار الإماراتي في «أرض الصومال» حرص أبو ظبي على تثبيت موقعها في المعادلات الأمنية والاقتصادية في منطقة تتقاطع فيها مصالح قوى إقليمية ودولية. ومن بين أبرز وجوه ذلك الاستثمار، إنفاق أكثر من 442 مليون دولار لتطوير ميناء بربرة (أرض الصومال)، وتحويله إلى قاعدة عسكرية ولوجستية متقدّمة، بعيداً من أي تنسيق مع الحكومة الفيدرالية في مقديشو؛ وتحويل ميناء بوصاصو (بونتلاند) إلى نقطة ارتكاز أخرى في الصومال، مستقلّة أيضاً عن السلطة المركزية.