تهدد الهزيمة النكراء، التي مني بها جاك شيراك وغيرهارد شرودر على يد الناخبين الفرنسيين والالمان في اواخر شهر مايو الماضي، مجرد عملهما في السياسة. كما ان فكرة المنظمة الاقتصادية والاجتماعية الاوروبية التي تبلورت عبر نصف قرن من الزمن معرضة لأخطار هي الاخرى. وبالرغم من ان العديد من الاميركيين ربما يستمتعون برؤية الرئيس الفرنسي والمستشار الالماني يتعرضان للعقاب، فليس من مصلحة أميركا، على المدى الطويل، أن تشجع أو ترغب في رؤية اوروبا القديمة مقسمة بحكومات غير مستقرة، تخلق العديد من الحواجز الوطنية من منطلق الخوف من الجيران والعالم، علما بأن هذا هو الطريق الذي يمكن لاوروبا أن تسير فيه مرة اخرى ، اذا ما اسيء تفسير نتائج ربيع الاضطرابات السياسية، او جرى استغلالها من اجل مكاسب ديماغوجية. لقد اصبحت الطريقة التي سيعمل بها كل من شيراك وشرودر من اجل استيعاب وشرح والتغلب على الرفض المترابط، اكثر اهمية من الخسائر نفسها، وذلك من اجل المستقبل ، فالقيادات الناضجة تتعلم اكثر من الهزائم التكتيكية اكثر من تعلمها من الانتصارات. فمن السهل قبول وتعظيم الانتصارات باعتبارها النتيجة الطبيعية للعبقرية او القوة، اكثر من تحديد وتحليل العديد من العوامل المختلفة التي تقرر النتائج. وهذه المهمة متروكة للخاسرين. ويجب على شيراك وشرودر التوصل الى تصور اكثر براغماتية لمصير اوروبا وسط المجتمع الاطلنطي إذا ما بقيا في الحكم للشهور المقبلة. وفي غياب قيادات مقنعة، فإن دولتيهما بل حزبيهما سيفلتان من سيطرتهما. وينطبق الشيء ذاته على التحالف الحاكم في هولندا وحكومة ايطاليا المحافظة المتداعية. لقد دفع شيراك وشرودر ثمن القيادات التي اشرفت على الاقتصاد الضعيف، فيما كان الاقتراع الفرنسي تحالفا للرفض اكثر منه رفضا واضحا سواء لأداء شيراك المتقلب او لدستور الاتحاد الاوروبي. لقد تحالفت قوى اليمين المتطرف المعادية للهجرة مع الاجنحة المعادية للتجارة وللرأسمالية في الحزب الاشتراكي واليسار المتطرف. وتغلبت عوامل الاستياء تلك على ادعاء ودعاية المؤسسة السياسية لصالح دمج وتوسع الاتحاد الاوروبي. فلم يعد الدستور كافيا، ولا التأكيدات بأن اوروبا الموحدة ضرورية لمواجهة اخطار ادعت باريس ان الاقتصاد والقوة العسكرية الاميركية يمثلانها لأوروبا ، فيما ساهمت الأخطار الاقتصادية اليومية حقيقية كانت او متوهمة في مجملها في تشكيل المحصلة النهائية للوضع الراهن. عبر الناخبون ايضا عن استيائهم ازاء الخطوات السريعة باتجاه توسيع العضوية بدون استشارة الرأي العام بطرق إيجابية . تضاف لذلك المخاوف المبالغ فيها من ان تصبح تركيا في القريب العاجل دولة كاملة العضوية في الاتحاد. أما الخيار الأفضل فيكمن في سيادة الاستقرار السياسي في اوروبا لتصبح قوية بصورة كافية تمكنها من التعاون مع واشنطن على نحو ثابت ومستمر ، وذلك بدلا من الشعور بأنه يجب عليها تأسيس هويتها الخاصة بها واستغلالها لمواجهة أميركا. وبفعل جملة من الأسباب، تتراوح من التوجه الديغولي الى الانتهازية السياسية، حاول شيراك وشرودر في بعض الأحيان الدفع باتجاه اتخاذ اوروبا توجها معارضا، فرحبّا بالدستور الاوروبي المقترح كعامل حاسم في هذه التوجه. ويمكن القول إن أمام المشروع الاوروبي الآن فرصة مواتية للسير في اتجاه اكثر تعاونا ، إذا نظرت باريس وبون بجدية للتساؤلات والشكوك التي أثارها الناخبون حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، مع الكف عن تعقب الخيالات المجردة للقوة الأميركية. الى ذلك، وفي معرض حديثه مع صحافيين ردا على سؤال حوله تحليله لنتيجة الاستفتاء الفرنسي، قال رئيس الوزراء البريطاني توني بلير: «السؤال محل الجدل لدى الرأي العام الاوروبي يتعلق بكيفية جعل اقتصادنا اكثر قوة وقدرة على المنافسة في عصر العولمة» ليعلق متسائلا: «ما هو النموذج الاجتماعي الاوروبي في عالم اليوم»؟ سؤال في محله. فقد تعرض شيراك وشرودر لتحد طالب فيه رأيهما العام بأن تكون هناك إجابات صحيحة على التساؤلات والشكوك المطروحة، اذا ارادا الاستمرار في الحكم. "الشرق الاوسط"