تفيد ردود الفعل الدولية على رفض الفرنسيين لمشروع الدستور الأوروبي أن كثيرين فوجئوا ب "اللا" الفرنسية وان آخرين ظنوا أو ما زالوا يظنون أن الرفض الفرنسي ومن بعده الهولندي ناهيك عن الإحجام البريطاني متمثلا بتعليق الاستفتاء المقرر من قبل، كل ذلك يوحي بنهاية المطاف بالنسبة للمشروع الاوروبي وهو استنتاج لا يتفق مع واقع الحال كما سيتضح من سياق هذه السطور. لكن المفاجأة خارج فرنسا لم تكن متناسبة مع استطلاع دقيق لاتجاهات الرأي العام في هذا البلد ذلك أن الفرنسيين كانوا يؤكدون منذ شهور على رفضهم لمشروع الدستور ويقولون رأيهم لمن يرغب عبر وسائل الإعلام في حين كانت الحكومة الفرنسية والرئيس جاك شيراك بخاصة يوحي بالعكس على أمل أن يتغير اتجاه الرأي العام عبر شرح المشروع أكثر أو عبر التخويف المبالغ فيه من عواقب الرفض غير أن الغالبية الفرنسية تمسكت بموقفها وكان ما كان. قبل التطرق إلى خريطة التصويت الفرنسي على مشروع الدستور ومعاني التصويت الداخلية التي ربما تتجاوز الرهان الأوروبي قبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن أوروبا الموحدة سبق لها أن واجهت في مراحل بنائها الطويلة رفضا بريطانيا وايرلنديا وفرنسيا ودانمركيا لكنها تجاوزته في كل مرة ليصل الاتحاد الأوروبي عبر تذليل العقبات إلى ما هو عليه الآن ما يعني أن الرفض الفرنسي والهولندي وغيره لن يضع حدا لتقدم البناء الأوروبي وان كان سيؤدي بالضرورة إلى تكييف هذا الاتحاد مع مصالح وتصورات الرافضين تماما كما كان يحصل من قبل. أما خريطة التصويت الفرنسي فهي تنطوي على ظاهرة فرنسية خطيرة آخذة في الاتساع لأسباب أوروبية وغير أوروبية وتتمثل هذه الظاهرة المتصاعدة في نمو أقصى اليمين العنصري وأقصى اليسار الراديكالي على حساب تشكيلات الوسط والليبراليين والاشتراكيين الديموقراطيين وهنا يكمن خطر كبير ليس لدى احد حتى الآن أجوبة مفيدة عن كيفية مواجهته. تفصح خريطة التصويت عن انبثاق نسبة تراوح بين عشرين وخمسة وعشرين بالمئة من اليمين المتطرف السيادي الذي يرفض المشروع الأوروبي بصيغته الراهنة وليس فقط بصيغته الدستورية التي كانت مطروحة على الاستفتاء.وتضم هذه الفئة من الفرنسيين الجبهة الوطنية المتطرفة بزعامة جان ماري لوبن وهي معادية للعرب والمسلمين والمهاجرين عموما وتحشد عناصرها تحت شعار كره الأجانب. إضافة إلى حركة السيد برونو ميغريه مساعد لوبن الأسبق والمنشق عنه والذي يعتبر أن أطروحاته غير كافية في عدائها للأجانب والى هذين الزعيمين يمكن إضافة فيليب دوفيلييه ابن منطقة الفاندي شرق فرنسا والتي تعرضت لمجازر على يد الجمهوريين الفرنسيين خلال الثورة الفرنسية بسبب تدينها مازالت آثارها قائمة حتى اليوم ويقترب من هذه الفئة وان بنزعة اقل عدوانية تجاه الاجانب السيد شارل باسكوا وزير الداخلية السابق واحد بارونات الديغولية المعروفين وقد نجح هؤلاء وفقا لاتجاهات التصويت في حشد حوالى 25٪ من الأصوات الرافضة للمشروع الأوروبي. بالمقابل تحتشد في صفوف أقصى اليسار نسبة كبيرة من المصوتين بلا وبخاصة التيار التروتسكي الذي يجمع السيدة آرليت لاغييه زعيمة حركة النضال العمالي التي حصلت على 5٪ من أصوات الناخبين في رئاسيات العام 2002 والسيد بيزنسنو ممثل رابطة الشيوعيين الثوريين التروتسكي أيضا والذي حصل على نسبة مشابهة فضلا عن تجمعات صغيرة أخرى لأقصى اليسار يقدر عدد أصواتها ب(2٪) ما يؤدي إلى حصيلة تقارب ال(12٪) يمكن أن تردف بحوالى 7٪ من أصوات الحزب الشيوعي الفرنسي الذي يشترك مع المتطرفين اليساريين في مطلب الحفاظ على السيادة في مواجهة السيادة الأوروبية التي تقضم في كل مشروع جديد المزيد من السيادات الوطنية ما يعني أن مجموع أصوات اليسار واليسار المتطرف المنبثقة من الاستفتاء الأوروبي قد تصل إلى 44 أو 45٪ وإذا ما علمنا أن الرفض الفرنسي بلغ نسبة 55٪ فان الفارق المحصور ب (10٪) جاء من كتلة السيد لوران فابيوس الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي الفرنسي والذي انفرد عن حزبه بالتصويت ب"لا" كلفته مرتبة الرجل الثاني في الحزب حيث نزعت عنه هذه الصفة قبل يومين أضف إلى ذلك فئات ديغولية ووسطية وناخبين عاديين صوتوا ب"لا " بسبب الخوف من مشروع ظل غامضاً رغم الجهود الجبارة التي بذلت من اجل توضيحه. هكذا يبدو أن المعنى الأبرز للرفض الفرنسي لمشروع الدستور الأوروبي يكمن في صعود أقصى اليمين وأقصى اليسار في فرنسا وتنامي شعبيتهما بطريقة ربما تترك تأثيراً سلبياً على مجمل الأداء السياسي لهذا البلد، ذلك ان الحكومة الحالية وأية حكومة مقبلة لا يمكنها تجاهل قوة المتطرفين في أوساط الرأي العام وستكون مجبرة على اتخاذ الإجراءات التي ترضيهم جزئيا على الأقل على أن تعزز بالمقابل اصطفاف الوسط والليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين في مواجهة الأقصيين. لكن الصعوبة الأبرز التي تعترض هذا الاصطفاف تكمن في ضعف الرئيس جاك شيراك نفسه بعد الاستفتاء وتزايد خصومه في التيار الديغولي ناهيك عن مشاكله النائمة مع العدالة والمجمدة بسبب موقعه الدستوري كل ذلك يجعل مساهمة الرئاسة في الاصطفاف محدودة إلا إذا برهن رئيس الحكومة الجديد دومينيك دو فيلبان عن مواهب كامنة تعيد قلب الأمور رأسا على عقب وتعين شيراك على استعادة زمام المبادرة كما أعانته من قبل على تبؤ موقع دولي من الطراز الأول عشية الحرب على العراق وبفضل دوفيلبان نفسه الذي بدا منذ ذلك الحين كشخصية وطنية فرنسية من الطراز الأول. مع دوفيلبان يلعب الرئيس جاك شيراك ورقته الأخيرة في ولايته الأولى بحسب الدستور الجديد وعلى مصير هذه الورقة لا يتوقف فقط مستقبل الموقع الفرنسي في أوروبا بل مستقبل التطرف في أقصاه اليميني واليساري في فرنسا نفسها وتاليا مستقبل الرئيس السياسي ما يعني أن هامش الخطأ أمام الوزير الأول يقارب الصفر... هكذا تبدو فرنسا ورئيسها هذه الأيام وكأنها تحتاج إلى الكثير الكثير من حسن الحظ والقليل القليل من الشؤم رغم أنها بلاد رينيه ديكارت الذي حطم بعقلانيته عددا لا يحصى من الماورئيات ...