تشير الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية في فرنسا الى بوادر "تسونامي" سياسية كبيرة من شأنها اذا ما وقعت ان تعيد ترتيب الخارطة السياسية في هذا البلد بل ربما تقلبها رأسا على عقب، فقد افصحت النتائج عن تقدم تاريخي لليمين المتطرف المناهض للعرب والأجانب اذ سجلت زعيمته الجديدة مارين لوبن تقدماً غير مسبوق بلغ اكثر من 18 بالمئة من مجموع الناخبين ما يعني ان اصواتها كفت عن ان تكون احتجاجية كما كانت في السابق، وصارت ثابتة وراسخة تنطوي على رغبة جدية برفع اليمين المتطرف الى سدة الرئاسة، وقد أعربت مارين لوبن صراحة عن طموحها الرئاسي وذهبت الى حد القول انها ستكون رئيسة لفرنسا خلال خمس سنوات. بالمقابل شهدت الدورة الاولى من الرئاسيات صعوداً ملحوظاً لليسار الراديكالي ممثلاً بجبهة شعبية ضمت الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب اليسار الجديد وجماعة من انصار البيئة فضلا عن اقسام من النقابات والتيار التروتسكي وقد حصل هذا التيار على حوالي 12 بالمئة من الاصوات ويقول زعيمه جان لوك ميلونشون ان حركته ستتولى السلطة خلال 10 سنوات، وهو يراهن على تفكك الحزب الاشتراكي الفرنسي في حين تراهن السيدة مارين لوبن على تفكك الحزب الديغولي. واذا كان مصير الحزب الاشتراكي لا تشوبه شائبة تذكر بدليل ان أمينه العام السابق فرانسوا هولاند يتمتع بفرص جدية ليصبح الرئيس المقبل للجمهورية، فإن مصير الديغولية سيكون مطروحاً بقوة على بساط البحث اذا ما فشل الرئيس ساركوزي بتجديد ولايته في قصر الاليزيه.. والثابت ان الرئيس الحالي الحق اذى كبيرا بتركة الجنرال ديغول عندما حول الحزب الحاكم الى اداة شخصية للوصول الى السلطة. ففي أواخر ولاية جاك شيراك الثانية بادر نيقولا ساركوزي الناظر أبداً نحو قصر الاليزيه الى االسيطرة على الحزب الديغولي بصيغته الشيراكية، ومن ثم اعاد تنظيمه على قاعدة العداء لشيراك فأقصى كادرات اساسية فيه لعبت أدواراً مهمة في اواخر القرن الماضي. ومطالع الألفية الثالثة.والحق ان ساركوزي سار على رسم سلفه الذي جعل الحزب الديغولي وسيلة شخصية للوصول الى القصر الفرنسي الاهم. معروف ان شيراك اطاح بوجوه تاريخية في هذا التيار لم يتمكن من تطويعها وأبرزها رئيس الوزراء الراحل جاك شابان دولماس وهمش شخصيات أخرى أو أحالها الى التقاعد السياسي المبكر شأن بيار مسمير و إيف غينا فضلاً عن عدد من رفاق ديغول الكبار حتى صار الحزب الديغولي بحق حزبه الشخصي وأداته الانتخابية طيلة حياته السياسية منذ أوائل السبعينات وحتى العام 2007 تاريخ ولايته الثانية والأخيرة. وعلى الرغم من تكييف الديغولية مع أغراضه السياسية الشخصية حافظ جاك شيراك على عدد من مكوناتها الاساسية فلم تستأنف بلاده عضويتها الكاملة في الاطلسي وظل أميناً للتقليد الديغولي الذي يقضي بالتعاطف مع الولاياتالمتحدة الاميركية عندما تخوض مجابهة عادلة ومعارضتها عندما تخوض مجابهة عدوانية الامر الذي تعكسه زيارة شيراك السريعة الى واشنطن غداة تفجيرات 11 سبتمبر 2001م وكان أول رئيس يصل الى العاصمة الامريكية للتضامن وتقديم العون ومن بعد الانخراط في الحرب الاميركية على طالبان واحتلال افغانستان حيث مازالت فرنسا تحتفظ بقوات عسكرية. بالمقابل رفض شيراك الحرب الامريكية على العراق، وهدد باستخدام «الفيتو» في مجلس الأمن اذا ما أصرت الولاياتالمتحدة على استخدام المنظمة الدولية كغطاء لحربها المتذرعة بأسلحة الدمار الشامل وقد ذهب بعيداً في هذا الاتجاه اذ شكل تحالفاً ثلاثياً رافضاً للحرب مع المانيا وروسيا. من جهته درج نيقولا ساركوزي على ترديد عبارات وخطب تذكر بعظمة الديغولية لكنه تجاوز للمرة الاولى خطوطها الحمر، وهو ما ظهر جلياً في قراره الشهير بالعودة التامة الى الحلف الاطلسي ودون الحصول على مزايا خاصة او التمتع بحق «الفيتو» أو أي حق آخر ما يعني ان باريس الاطلسية تلتزم كغيرها من الاعضاء بسياسة الحلف، وتخضع تماما لهرميته التي تقف الولاياتالمتحدة على رأسها، وفي السياق جعل ساركوزي سياسة بلاده الخارجية تحت السقف الامريكي المباشر وحرمها من هامش المناورة في الشرق الاوسط، أما في المجال الاوروبي فقد فشل في كل المواجهات الاعتراضية مع المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل ما أدى إلى ان يسير المشروع الاوروبي وفق الارادة الالمانية، وذلك للمرة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية. الواضح ان ساركوزي قد أجهز على ما تبقى من آثار الديغولية في ثقافة حزبه وفي سياسة بلاده الخارجية، وجرده من علة وجوده أي النزعة الوطنية الفرنسية المميزة الامر الذي فتح الباب واسعاً امام الجبهة الوطنية المتطرفة التي حرثت الحقل الوطني وجعلته ارضها المفضلة في فرنسا، وكان من الطبيعي ان تستقبل في هذا الحقل المتضررين الكثر من الساركوزية والشيراكية والميتراندية فضلاً عن الفئات الملكية وبعض الفئات الكاثوليكية، وبقايا الذين يحنون الى عظمة بلادهم الكولونيالية. يسمح ما سبق بالقول إن التيار الديغولي الفرنسي وصل مع نيقولا ساركوزي الى نهاية المطاف وهو اليوم يقف على حافة الهاوية ذلك ان فشل الرئيس المتوقع في الدورة الثانية من الرئاسيات في السادس من مايو ايار المقبل من شأنه أن يطلق رصاصة الرحمة على هذا الحزب الذي يتوقع ان يتعرض الانتخابات لهجوم مركز على محورين الاول من جهة اليمين المتطرف الصاعد والذي يعتبر نفسه النواة الصلبة للمعارضة اليمينية القومية في فرنسا، ولم تتردد زعيمة هذا التيار مارين لوبن في الاعلان صراحة عن نيتها وراثة الحزب الديغولي، والمحور الثاني من جهة الوسط حيث يرى زعيمه فرانسوا بايرو ان الوقت قد حان فعلاً لبناء قوة سياسية مركزية في الوسط تتيح تحقيق التوازن في الخارطة السياسية الفرنسية وتحول دون انحراف فرنسا يميناً او يساراً على حدٍ سواء. في واحدة من مكاشفاته المحدودة مع وسائل الاعلام كشف مؤسس الجبهة اليمينية المتطرفة عن احساسه بالمرارة جراء التصلب الديغولي بعد الحرب العالمية الثانية ازاء انصار الماريشال بيتان وحكومة فيشي فهو كان يأمل ان يوحد ديغول فرنسا لا ان يجعل فريقاً منها ينتقم من فريق آخر لذا رسم لوبن نفسه عدواً للديغولية، واعتبر ان التصدي لها اهم من التصدي لليسار .. وها هو اليوم وقد تجاوز الثمانين من عمره يكاد ان يحقق امنيته مستفيدا من اخطاء ساركوزي الذي لم يقتصر ضرره على ضرب الخطوط الديغولية الحمراء بل وضع استراتيجية انتخابية غبية تقضي بالذهاب الى ارض اليمين المتطرف بحثاً عن أصواته فكان ان اعطى المتطرفين شرعية غير مسبوقة واضفى عليهم الاحترام حتى وصل حجمهم الانتخابي الى حوالي 20 بالمئة اي بفارق 6 نقاط عن رئيس الجمهورية. في فرنسا مثال شائع يقول:«اذا اردت ان تتناول العشاء مع الشيطان فكن حريصاً على استخدام شوكة طويلة» .. لم يعمل الرئيس ساركوزي بهذه الحكمة في علاقته باليمين المتطرف فكان ان ربح الشيطان وخسرت الديغولية الجولة الاولى ولعل خسارتها قد تتجاوز الدورة الثانية الى طي صفحة الحزب نفسه.