في الجنوب أصبح الخروج إلى الشارع في وقفات ومظاهرات تعبير صادق وقاس عن معاناة باتت تلامس الكرامة الأساسية للإنسان حين يعجز الأب عن شراء قطمة دقيق أو سكر أو دواء لمريضه، وحين تصبح الكهرباء والماء من الكماليات النادرة فلا مفر من أن يرتفع الصوت في الشارع، حتى لو لم يكن هناك بصيص أمل في الاستجابة من قبل التحالف والحكومة. ففي عدن خلال الأيام الماضية خرجت الناس لتطالب بالخدمات والحياة الكريمة لا لتجامل طرف أو تساير موقف، لكنها فوجئت بمن يحاول توجيه غضبها بعيداً عن مكمن الوجع الحقيقي، هناك من ظهر فجأة ليقول لا ترفعوا العلم الجنوبي، وكأن التمسك بالهوية الجنوبية صارت جريمة ، و رفع العلم في يد الجائع قد يفسد عليه مطلبه في رغيف الخبز أو بالكهرباء والماء.
وهنا تبرز الأسئلة أمام المرء من يصر على إزاحة العلم من مشهد المطالب المعيشية؟ وهل المشكلة فعلاً في العلم أو في ما يرمز إليه العلم من هوية وكرامة وحق إذا كان الجائع لا يطالب سوى بالماء والكهرباء والخبز فلماذا يسعى البعض إلى منعه من حمل رمز قضيته؟ ولماذا يكتفي من يدّعي الحياد بالصمت أمام من يشوه هذا المطلب؟
المعادلة واضحة هناك أطراف أرادت أن تركب موجة السخط الشعبي كي تعيد طرح مشروعها القديم مشروع يعادي فكرة فك إرتباط الجنوب عن الجمهورية اليمنية، هناك من يحلم بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء إلى زمن التبعية والمصادرة والوصاية مثل هؤلاء لم ينزلوا إلى الشارع من أجل الناس بل من أجل إعادة تعريف مطالب الناس بطريقة تخدم أجنداتهم.
وهنا يبرز العبث بكل معانيه إذ تُسخّر معاناة الناس من أجل تلميع قوى فاسدة، استعادة قوى لفظها ورفضها الجنوب منذُ 2007م بعد أن دفع ثمنا باهظاً للتحرر منها، بحيث تسعى إلى تحويل المطلب الحقوقي بالخبز والكهرباء والماء إلى معركة رمزية ضد كل ما يمت للجنوب بصلة حتى بات مجرد رفع العلم مبرراً للسب والاعتداء والتشويه.
وأنا لا أبرر أو ا تجاهل مسؤولية المجلس الانتقالي الذي __ وإن لم يكن هو المتسبب أصلاً بالأزمات لبقاء سيطرة الدولة العميقة على حياة ومعيشة الشعب_ إلا أن تساهل الانتقالي مع من يصنع تلك الأزمات إذ اختار المجلس أحياناً الصمت تحت مبررات التهدئة وأحيانا أخرى مرر التنازلات بدعوى الحفاظ على الشراكة بينما في المقابل تعمل القوى المعادية له بلا توقف لإضعافه وتشويه صورته وقضم شعبيته وهذا الأمر ساهم في تعقيد الموقف.
فشعب الجنوب لا يطلب معجزات لكن يريد موقف يحميهم من العبث ويحفظ كرامتهم في وجه الجوع والإذلال لا يكفي أن نقول نعرف السبب ولا أن نوجه الاتهامات خلف الكواليس، المطلوب تحرك حقيقي يعيد توجيه البوصلة نحو من تسببوا في المعاناة ومصارحتهم بذلك.
العاصمة الجنوبية عدن اليوم تختنق تحت ضغط معيشي خانق إلى جانب أنها أيضاً تواجه ضغطاً ديمغرافياً غير مسبوق بفعل النزوح المتراكم الذي تجاوز قدرة المدينة على الاستيعاب البعض وليس الكل ممن استقروا فيها للأسف باتوا جزءًا من مشروع سياسي يرفض أي وجود جنوبي حر لا في الشارع ولا في المؤسسات.
أعود وأقول أن ما يجري اليوم ليس احتجاج عادي، بل اختبار صعب لوعي الناس ونضج القوى الفاعلة لأن الجائع قد يصمت إذا شبع وذهبت عنه الجوع لكنه لن يغفر لمن استغل وجعه لخدمة أهداف لا علاقة لها بحقه من يرشق رجال الأمن لا يريد استقرار، ومن يرفع شعارات مناطقية مثل برع برع يا ... لا يحمل هم الكهرباء ولا الخبز بل يريد أن يفتح باب للفتنة والفوضى.
نعم الجنوب ليس دولة مستقلة حتى الآن، لكنه ليس صفحة بيضاء لمن يريد أن يعيد كتابة تاريخه من الصفر ومعاناة الناس ليست مادة خام لإعادة تدوير الصراع في غير اتجاهه؛ بل هي قضية تستحق أن يسمع الأقليم والعالم لها كما هي بلا تزوير ولا توظيف ولا مقايضة.
في ضوء هذا لم يعد خافياً علينا ان هناك نخب يمنية لا تزال متمسكة بحلم الوحدة الميتة تماما وهي من تمارس العبث بمطالب الجياع في الجنوب وتحاول اختطاف صوت الناس وتوظيف معاناتهم لاحياء مشاريع بائدة رفضها شعب الجنوب العربي منذ سنوات.
هذه النخب لا يهمها الخبر ولا الكهرباء ولا الماء والخدمات الأخرى ولا تهمها كرامة الانسان الجنوبي الذي يهان يومياً امام ابواب المخابز وتموت أمام العيادات والمستشفبات، بل تهتم بشيء واحد وهو طمس الهوية الجنوبية واعادة الجنوب العربي الى مربع التبعية عبر تزييف الوعي الشعبي وركوب موجة الاحتجاجات.
لقد خرج الناس في عدن وغيرها من مدن الجنوب لانهم جائعون ومقهورون خرجوا يطالبون بحقوقهم الاساسية في الحياة لكنهم فوجئوا بمن يريد مصادرة رمزية العلم الجنوبي تحت ذريعة الوحدة وكأن التمسك بالهوية أصبح تهمة من يمنع الجائع من رفع علمه لا يدافع عن الخبز بل يخشى من التاريخ ويخشى من الوعي الذي تشكل ان الجنوب لم يعد مجرد جغرافيا ضمن الجمهورية اليمنية بل قضية وهوية وحق لا يسقط بالتقادم.
ان من يقف خلف هذا التوظيف الرخيص لمعاناة الناس هي قوى شمالية عرفت كيف توظف ادواتها الاعلامية والسياسية وحتى بعض العناصر المزروعة في الشارع الجنوبي لخلق الفوضى وحرف المسار من صرخة ضد الجوع الى صراع مفتعل، وشيطنة المجلس الانتقالي رغم ان هذا المجلس نفسه لم يكن المتسبب في الازمات بل تعامل احياناً بتساهل مفرط معها تحت وهم الشراكة ومتابعة التحالف الذي له نواياه هو الآخر.
هؤلاء لا يريدون خبزاً ولا ماء للجنوبي بل يريدونه خانعاً متخلياً عن قضيته مقابل شيء من الخبز، وهنا يكمن الخطر الاكبر ان يتم افراغ المظاهرات من مضمونها وتحويلها الى ساحة لاعادة تدوير مشاريع الوحدة الفاشلة، لأن استقرار الجنوب يعني نهاية الوحدة.