في مدينة عدن، التي لطالما كانت عاصمة للنظافة والصحة والهواء النقي، يتكشف مشهدٌ عبثي مأساوي، لا ينذر بكارثة فحسب، بل يضع علامات استفهام كبرى حول نوايا وشفافية السلطات المحلية. فبينما يئن المواطن تحت وطأة ظروفٍ معيشية لا تُطاق، وشحٍ خانق في أبسط الخدمات الأساسية، تبرز إلى السطح حملات رش ضبابي تُنفذ "خلسة" في شوارع وأحياء المدينة، بدعوى مكافحة حشرة البعوض. غير أن ما يدور في الكواليس، وما يشهده الواقع، يُلغي أي منطق، ويُثير ريبةً عميقةً، بل يُشعل نار الخوف في قلوب الأهالي، ويُعلن عن فصولٍ جديدة من الموت البطيء الذي يطالهم. الغرابة في التوقيت..والبعوض "الشهيد" إن الأمر الذي يثير الدهشة والاستفهام، والذي لا يتوافق مع أدنى مبادئ المكافحة البيولوجية للحشرات، هو توقيت هذه الحملات. فالمواطنون في عدن يؤكدون بحسهم وخبرتهم أن حشرة البعوض، التي تُتخذ ذريعة لهذه العمليات، تكاد تختفي تماماً من تلقاء نفسها في فصل الصيف، بفعل ارتفاع درجات الحرارة القياسية التي تُنهي دورة حياتها. ومن المفارقة اللافتة، التي تضع السلطات في قفص الاتهام، أن الجهات المعنية لم تُحرك ساكناً، ولم تُنفذ أي حملات رش مشابهة، في فصل الشتاء – وهو الموسم الذي يشهد فيه البعوض تكاثراً حقيقياً وانتشاراً للأوبئة بشكل ملحوظ. هذا التناقض الصارخ لا يمكن تفسيره إلا بشيء واحد: أن البعوض ليس هو المستهدف الحقيقي من حملات الرش المشبوهة.
شهادات صادمة:أمراض فتاكة تتبع الرش ومن صميم المعاناة، تتوالى الشهادات التي تُزلزل الوجدان، و تُطلق صافرة الإنذار. يروي مواطنون من مدينة المعلا بقلقٍ بالغ أنهم لاحظوا تزايداً ملحوظاً في انتشار الأمراض والحميات بين المواطنين بعد كل عملية رش ضبابي، وأن الأمراض التنفسية والذبحات الصدرية أصبحت كابوساً يطاردهم. حيث يعتقد هؤلاء المواطنون بقناعة تامة أن هذه الحملات لا تستهدف البعوض على الإطلاق، بل أن المواد المستخدمة في عمليات الرش هي "مواد سامة تُؤثر وتضر بصحة المواطن، وتُعرضه للوفاة". ويُشددون على أن هناك "مكونات سامة لحياة الإنسان يتم إطلاقها بدعوى مكافحة البعوض، بينما المستهدف منها هو حياة المواطن وصحته، من وراء ذلك لتحقيق أهداف سياسية غير معروفة".
وفي مدينة القلوعة، المشهد لا يقل مأساوية. يتحدث مواطنون عن إصابتهم بأمراض رئوية وتنفسية "مباشرة بعد عمليات الرش"، لدرجة أن بعض الحالات وصلت إلى المستشفيات في وضعٍ حرج، وخاصة كبار السن والأطفال. وبعض هؤلاء، للأسف، فارق الحياة نتيجة انقطاع النفس أو الذبحة الصدرية.فيما يُجسد أحد المواطنين في القلوعة قمة الرعب الذي يعيشه الأهالي بقوله: "بمجرد أن أسمع صوت العربة التي تتولى عملية الرش، أُسارع إلى إغلاق النوافذ بإحكام في بيتي رغم انقطاع التيار الكهربائي. وأمكث أنا وأسرتي داخل البيت المغلق، رغم ارتفاع درجات الحرارة، لساعاتٍ طويلة، لأتقي دخان الرش، وأجنب أسرتي من نتائجه السامة والمميتة". هذا المشهد، وحده، يختزل حجم الكارثة وشدة الخوف.
أولويات مقلوبة:وفساد يكشف المستور أين تكمن أولويات السلطات؟ يتساءل مواطنٌ آخر في دهشةٍ ومرارة: "كيف تهتم السلطات بمكافحة البعوض بينما يعيش المواطن بلا كهرباء، ولا خدمات صحية، ولا تعليم ويواجه ظروفاً معيشية واقتصادية سيئة بينما لم تهتم السلطات بذلك". ويضيف بلسانٍ يعتصر ألماً: "مياه المجاري والبالوعات تتدفق في الشوارع والأحياء ولم تُحرك السلطات ساكناً حيالها، رغم أنها السبب الرئيس في تكاثر الأوبئة. وفي المقابل، تُكرس السلطات اهتمامها وجهودها وإمكانياتها لمكافحة البعوض الذي يموت من تلقاء نفسه في فصل الصيف ولا يحتاج إلى مكافحة!" هذا التناقض الفاضح يشي بوجود أجندة خفية، باتت تثير الشكوك في أن الهدف ليس صحة المواطن، بل أمور أخرى تتجاوز كل المعايير الإنسانية والأخلاقية.
تحذيرٌ شديد اللهجة: اللعبة مكشوفة" ومن مديرية كريتر، يخرج صوتٌ غاضب ومُحذّر. اذ يُحمّل المواطنون السلطات المحلية "المسؤولية الكاملة عما تُسببه لهم حملات الرش من أضرار بالصحة"، ويعتبرون "أن الاستمرار في تنفيذ هذه الحملات هو إمعان في قتل المواطنين". وبعباراتٍ شديدة الوضوح والتهديد، أضافوا: "إن الاستمرار في تنفيذ حملات الرش في فصل الصيف دون سبب واضح سوف يدفعنا للتصدي لها والمواجهة معها، فالأمور أصبحت واضحة واللعبة مكشوفة". ويُوضحون بمرارة لاذعة أن "المواطن في عدن لا يشكو من البعوض إطلاقاً، فهو يشكو من غياب الخدمات الأساسية والكهرباء، ونقص الرعاية الصحية، وإهمال المستشفيات، وارتفاع الخدمات الصحية في المستشفيات العامة والخاصة، وارتفاع أسعار الأدوية وتكاليف الحياة بشكل عام، وتدني الرواتب، وانفجار البالوعات، وتدهور العملة المحلية". أما "البعوض، وخصوصاً في فصل الصيف، فنحن لا نواجه أي مشكلة معه".
ولم يغفل أبناء مديرية التواهي عن رفع صوتهم، مُحذرين السلطات المحلية في المحافظة من "مغبة الاستمرار في تنفيذ عمليات وحملات الرش التي تتسبب في انتشار الأوبئة والأمراض في المجتمع، وعلى نحو قاتل". وناشدوا هذه السلطات أن "تتوقف عن ذلك فوراً" قبل أن تتحول هذه الحملات إلى مأساة لا رجعة فيها، وربما شرارة لمواجهة لا تُحمد عقباها.
خاتمةٌ لا تحتمل التأويل: إن ما يجري في عدن، تحت غطاء "مكافحة البعوض"، يتجاوز حدود الإهمال أو سوء الإدارة، ليلامس شبهة "الاستهداف المباشر" لصحة المواطنين وحياتهم. إنها مأساةٌ تُضاف إلى سجل طويل من المعاناة التي يكابدها أبناء الجنوب. على السلطات المحلية أن تُجيب، وبشكلٍ فوري وشفاف، عن هذه التساؤلات المشروعة، وأن تُقدم تفسيراً منطقياً لهذا السلوك المريب. وإلا، فإن الصمت سيُعد إقراراً، والاستمرار سيُعتبر إمعاناً في جريمةٍ تُرتكب بحق شعبٍ أعزل، لن يصمت طويلاً على من يزرع الموت في سمائه، ويُدمّر حياته. إن أرواح الأبرياء الذين قضوا، ومعاناة المرضى، وصراخ الخائفين، هي أدلة دامغة على أن هذه الحملات ليست إلا وجه آخر لمعركة حياة أو موت في عدن.