الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاصد العامة للإسلام .. رؤية تأصيلية تجديدية قرآنية


الحلقة الأولى
أزمة العقلية الإسلامية المعاصرة:
لابد من الإشارة ابتداءً إلى أن العقلية الإسلامية الحالية تعيش أزمة علمية منهجية ومعرفية حادة.
وتتمثل هذه الأزمة العلمية في أن العقلية الإسلامية مازالت تستجر التراث الفقهي التاريخي الماضوي بسلبياته وإيجابياته عقلية ضربها الجمود والتقليد عاجزة عن امتلاك أدوات الاجتهاد والتجديد بالفهم العميق لكليات الإسلام ومقاصد الشريعة وتنزيلها على تحديات العصر الراهن ومستجداته من خلال التفاعل مع ثلاثة محاور هي:
1) الوحي المقدس قرآناً معصوماً وسنة معصومة بالقرآن.
2) التراث العلمي الفقهي التاريخي استرشاداً به لا توقفاً عنده.
3) رصيد الحكمة الموجود في الثقافة الإنسانية قاطبة (معارفاً وتجارباً) (الحكمة ضالة المؤمن).
ولو حاولنا سبر أغوار الأزمة العلمية التي تعاني منها العقلية الإسلامية المعاصرة لوجدنا جوهر هذه الأزمة يتمثل في أن العقلية الإسلامية لم ترتقي بعد إلى المضمون المعرفي القرآني ذي المنهجية الكلية العلمية القائمة على (فقه السنن والقوانين العامة الناظمة للحياة الكونية والحياة الإنسانية) لأنها ما زالت مؤطرة بالمضمون المعرفي الفقهي التاريخي (فقه آيات وأحاديث الأحكام) هذا الفقه القائم على النظرة الجزئية منهجاً ومعرفة وعلى نمط التلقي الذي يخاطب ملكة الحفظ لا ملكة الفهم وعلى الخلط بين قداسة النصوص وفهم العلماء غير المقدس لنصوص الوحي وعلى فقه المحكمة لا على فقه الدولة والحضارة.
في حين أن المضمون المعرفي القرآني كلي لا جزئي ويحتاج إلى عقلية تفهم وتحلل لا عقلية تتلقى وتحفظ، عقلية لا تقدس العلماء وإن كانت تحترمهم ولا تأخذ منهم تقليداً وإنما استرشاداً، عقلية تقدس نصوص الوحي فقط وتفهم الوحي أولاً في نسقه الكلي الموضوعي ثم في نسقه التفصيلي الجزئي، عقلية تدرك أن جوهر الوحي (القرآن) هو فقه السنن والقوانين العامة الناظمة للحياة الكونية والبشرية لا فقه آيات الأحكام، عقلية تحلل القرآن في نسقه الموضوعي أكثر مما تفسر القرآن لغوياً بمنهجية مجزأة تكاد تفصل كلمات الآية الواحدة عن سياقها الموضعي فضلاً عن السورة في سياقها الموضوعي، عقلية تبدأ بفهم أمهات المعاني القرآنية (المحكم) ثم تفهم تفصيلات القرآن (المتشابه) في ضوء أمهات المعاني (أصولها وكلياتها) (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) فدل سياق الآيتين على أن المحكم هو الأصل والكلي والمتشابه هو الفرع والتفصيل، عقلية تدرك أنه لا تصادم بين حقائق العقل وحقائق النقل وأن التدبر في كتاب الله المسطور لا يمكن أن يتناقض مع التفكر في كتاب الله المنظور (الكون).
ومفتاح الانتقال إلى هذا الوعي يبدأ بكلمات مختصرة بالتحول من فقه آيات وأحاديث الأحكام الإطار المعرفي التراثي التقليدي إلى فقه آيات الله في الآفاق والأنفس، فقه السنن والقوانين العامة الناظمة للحياة الكونية والإنسانية.
هذا المضمون المعرفي أشارت إليه العديد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم:30).
في هذه الآية العظيمة يأتينا التوجيه الرباني بأن نقيم وجوهنا للدين أي نلتزم بتعاليم الدين وقيمه وأحكامه ثم يأتي التعليل القرآني العلمي لبيان سبب المطالبة بالالتزام بالدين قيماً وأحكاماً بقوله تعالى{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30
أي أن تعاليم الدين الهادية الآمرة هي موافقة لقوانين الفطرة والخلق وقوانين الفطرة هي سنن ثابتة لا تتبدل (لا تبديل لخلق الله) (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) فاطر 43.
وبهذا البيان القرآني البديع يتبين لنا أن دين الإسلام هو المنهج العلمي الناظم للحياة الإنسانية بما يوافق قوانين فطرتها وخلقها، ومن هنا كان المنهج الإسلامي هو المنهج الأقوم والأحسن الذي به تقوم حياة المجتمعات والدول والحضارات لأنه المنهج العلمي السنني، ولكن أكثر الناس لم يرتقوا بوعيهم إلى المنهجية العلمية الصحيحة ولذلك لا يعلمون بحقيقة الدين العلمية ( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ).
ومن هذا المنطلق أقول بأن العقلية الإسلامية المعاصرة لا يمكن لها التأسيس لمشروع نهضوي حضاري إسلامي يعمل على إخراج واقعنا العربي الإسلامي من أزمته الحضارية وإشكالية التخلف إلا بالانتقال بالعقلية الإسلامية هذه النقلة النوعية المعرفية من الإطار المعرفي الماضوي التراثي إطار (فقه آيات الأحكام) لأنها ما زالت مؤطرة به حتى يومنا (فقه المحكمة لا فقه الدولة والحضارة) إلى الإطار المعرفي القرآني (فقه السنن والقوانين العامة الناظمة للحياة الكونية والحياة الإنسانية).
عندئذ سيدرك جميع البشر أن الإسلام والقرآن هو المنهج العلمي السنني الحق القائم على فهم القوانين العامة والحقائق الناظمة للحياة فيقع تأويل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }(فصلت:31).
ومن هنا يمكنني القول أن هذه الآية العظيمة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }الروم30 هي المدخل المعرفي الحقيقي لفهم المضمون المعرفي القرآني ذي المنهجية العلمية الكلية التجريدية.
إن العقلية الإسلامية التاريخية انطلقت في فهم القرآن بنظرة جزئية منهجاً ومعرفة تبحث عن الأحكام التفصيلية المباشرة الناظمة لعلاقات الأفراد ولم تلتفت للقواعد والأسس الكلية المتعلقة بقيام المجتمعات والدول والحضارات فتم التركيز على أحكام المعاملات (القانون المدني) وأحكام الجنايات (القانون الجنائي) وأحكام الأسرة (قانون الأسرة) ولم يهتموا بفقه الدولة والحضارة بسبب الانحراف السياسي المبكر الذي لحق الدولة الإسلامية والهجمة الشرسة المعرفية والمنهجية التأويلية المجوسية واليهودية.
ولما تعاملت العقلية الإسلامية مع القرآن بهذه المنهجية الجزئية وكأن القرآن لائحة داخلية وليس دستوراً عاماً يضع القواعد العامة المجردة لا التفاصيل التطبيقية المجسدة لم يجد علماؤنا في القرآن من الأحكام التفصيلية المباشرة سوى خمسمائة آية والتي سميت (آيات الأحكام) ومن ثم انصرفت معظم الجهود العلمية إلى السنة النبوية لأن طبيعة السنة تفصيلية بحثاً عن أحاديث الأحكام وغدت آيات الأحكام وأحاديث الأحكام هي شروط الاجتهاد وهي الإطار المعرفي للعقلية الإسلامية.
وأنا لا أقصد بكلامي هذا التقليل من شأن التراث الفقهي التاريخي وإنما التأكيد على ضرورة الاستفادة منه وعدم التوقف عنده لأن موضوع آيات الأحكام وأحاديث الأحكام قد أشبعه تراثنا بحثاً ويجب الآن الانتقال إلى المنهجية القرآنية الكلية العلمية عندئذ سندرك أن القرآن كله أحكام وعلوم وسنن وقوانين وليس خمسمائة آية وسترتقي العقلية الإسلامية إلى المنهجية العلمية المنطلقة من القوانين العامة والسنن الناظمة للحياة الكونية والإنسانية فيكشف القرآن عن مكنونه المعرفي الحقيقي وهو الحكمة:
- لأن الحكمة هي المضمون المعرفي للقرآن بدليل اقتران الحكمة مع الكتاب في العديد من آيات القرآن.
- وبدليل جعل الحكمة هي الشرط الرئيسي للنجاح في عملية الدعوة والتغيير لأن الواقع يسير وفق سنن معينة ومن لا يفهمها لا ينجح في عملية التغيير.
- أما الأدلة القرآنية على أن المضمون المعرفي للقرآن هو الحكمة.
* قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ }(آل عمران:48).
* قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }(آل عمران:164).
* وقوله تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{268} يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ{269} (البقرة: 268-269).
* قوله تعالى{ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } (النساء:113). والمقصود بالحكمة هنا ليس السنّة كما زعم بعض المفسرين بدليل قوله تعالى (يس{1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ{2}) فهذه الآية قطعية الدلالة في بيان أن المضمون المعرفي للقرآن هو الحكمة.
* ثم يخبرنا القرآن أن المسيح عيسى عليه السلام عند ظهوره آخر الزمان سيأتي ويكشف عن مكنون الحكمة بقوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{61} وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{62} وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{63} (الزخرف)
أما دليل جعل الحكمة أساس نجاح الدعوة وتغيير الواقع فهو قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل:125).
والآلية المعتمدة للوصول إلى هذا المضمون المعرفي القرآني (الحكمة) هو فقه السنن والقوانين العامة للحياة الكونية والإنسانية لا فقه آيات الأحكام لأن العلم منه الثابت ومنه المتغير والعلم الثابت الذي هو الحق هو السنن العامة والقوانين العامة التي لا تتبدل وهذه السنن والقوانين مكنونة في القرآن كتاب الله المسطور كما هي مكنونة في الكون كتاب الله المنظور وهذه السنن هي التي فصلها القرآن ولذلك اتسم بالعموم والتجريد أما العلم المتغير المتعلق بالتفاصيل المرتبطة بالجوانب التطبيقية المجسدة فقد ترك للسنة ثم لإجتهاد العقل البشري على ضوء القواعد العامة السننية وهديها لأن جزئيات كل عصر متغيرة وليست ثابتة.
- فقه آيات الأحكام هو الحد الأدنى من العلم الذي لا ينبغي جهله وفقه آيات الله في الآفاق والأنفس فقه السنن الثابتة التي لا تتبدل هي الحد الأعلى الذي يقود إلى الحكمة وإلى السقف المعرفي القرآني النهائي وهو الوعي الموضوعي المعادل لحقائق الكون والحياة البشرية بشموله واتساعه.
والدليل على كلامي هو حجم آيات الأحكام في القرآن من حجم آيات الله في الآفاق والأنفس.
ولو تأملنا في الآثار السلبية للمنهجية المعرفية التي اتسمت بها العقلية الإسلامية التاريخية لوجدنا أنه حصل نوع من الفصل بين الدين والدنيا وتم تفسير الإسلام بشكل عام وكأنه جاء لإصلاح آخرة الإنسان لا آخرته ودنياه ولم يتم إبراز الإسلام كمنهج شامل لإصلاح حياتنا في الدنيا والآخرة مما ساهم في تكريس واقع التخلف (سلبية الإنسان إزاء المجتمع والطبيعة) وعدم تحفيزه للفعل الحضاري مع أن القرآن أوضح لنا أنه منهج لإصلاح الحياة الدنيا والآخرة وإقامة جنات وفراديس أرضية وسماوية.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الأعراف الآية 32.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124}) طه.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } سبأ:15.
وحصل فصل بين علوم الشريعة وعلوم الطبيعة ولا فصل بينهما لأن علوم الطبيعة هي آيات الآفاق وهي مادة الإيمان لأنها الأثر الدال على المؤثر ( البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير )، ومن زاوية أخرى كل ما في الطبيعة والكون سخّره الله لمصلحة الإنسان فالكون فطرةً خاضع لقانون التسخير وقابل هذه السنة الفطرية سنة تشريعية دينية وهي قانون الإعمار
لقوله تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }لقمان20
وقوله (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }هود61
كما حصل في تراثنا الفقهي نوع من الفصل بين العقيدة والشريعة وتم إبراز عقيدة التوحيد وكأنها لا علاقة لها بإصلاح حياتنا الدنيا وحصرت الشريعة في الأحكام التفصيلية الناظمة لعلاقات الأفراد في المجتمع والدولة المسلمة (فقه المحكمة) ولم يلتفت فقهاؤنا لأسس ومقاصد بناء الدولة والمجتمع (فقه الدولة).
حتى المقاصد العامة التي تكلم عنها علماء التراث الكليات الخمس (حفظ الدين –حفظ المال – حفظ العقل - حفظ النفس- حفظ العرض) جاءت من زاوية جزئية، صحيح أنها مقاصد عامة لكنها متعلقة بحقوق الأفراد وهي مقاصد استنبطها الفقهاء استنباطاً من خلال تتبع الآثار والنتائج التي تقود إليها آيات وأحاديث الأحكام.
وبالمقابل غفل تراثنا الفقهي التاريخي عن مقاصد وأسس بناء المجتمعات والدول والحضارات رغم أنها كليات وردت في القرآن بنصوص صريحة من ذلك:
(الحرية والشورى- الوحدة- العدل- السلام - الإصلاح وعدم الفساد ) هذه هي مقاصد وأسس الدولة والحضارة في القرآن (فقه الدولة) ولا تجد لها في كتب الفقه أبواب ثابتة وشروح وتفاصيل وسأقوم بشرحها بإيجاز وأبين مدى ارتباطها بالعقيدة وأن فقه العقيدة هو فقه الدولة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.