في الأيام الأولى من الإجازة المدرسية من كل عام يزدحم مطار عدن بعشرات الآلاف من المغتربين مصطحبين معهم أولادهم ونسائهم ، وتزدحم كذلك المنافذ الحدودية بعشرات آلاف السيارات ، حتى أن الدول العربية التي يقيم فيها الجنوبيون تستعد لموسم الإجازة بزيادة عدد الموظفين في المنافذ الحدودية لتسهيل خدمة المسافرين . ولا أبالغ إذا قلت أننا كنا نستعد للإجازة قبلها بشهرين أو ثلاثة أشهر بشراء كل حاجاتنا وهدايا الأهل والأصدقاء . كنَّا كلما اجتزنا مئات الكيلومترات يزيد الشوق ويتناقص الهم ، وعندما نعبر الحدود الدولية ينجلي عنا نصف الهم ، وعندما تظهر مشارف مدينة عدن يزول ما تبقى منه . وعندما نتجه إلى يافع وتظهر لنا مدينة الحبيلين يزول نصف الضيق ، وعندما نصل أعلى نقيل الخلاء يزول كل الضيق ، وكل مشاغل الدنيا ، وتعود إلينا الروح مع أول هبات النسيم في تلك الجبال . إنَّ هذا الشوق لتلك البلاد مزروع في كياننا ولا يمكن التخلص منه ، وهذا الشوق والحب للوطن نقلناه كما هو إلى أولادنا ، وكنا نلزمهم بقضاء الإجازة في يافع وعدن ، ومع مرور السنين أصبح الذهاب لقضاء الإجازة فيها خيارهم الذاتي ولم يعد إلزاماً منا . وتنفيذاً لرغبتهم في بناء بيوت مناسبة بنينا لهم بكل ما نملك ، بل لا أبالغ إذا قلت أن بعض أصدقائنا انفق على بيته في يافع ما بين الخمسة والعشرة مليون ريال سعودي ، ومثل هذا المبلغ أنفقوه في عدن ، من أجل إجازة شهرين ، بينما -إقامته الدائمة- يعيش في شقة صغيرة في بلاد الغربة . بهذه الطريقة ربط المغتربون أبنائهم بوطنهم . كان أولاد المغتربين يفرحون بالسفر إلى الوطن لأنهم يجدون الحرية التي لا يجدونها في بلاد الغربة ، كانت النساء تخرج إلى الأسواق وتمشي في شوارع وسواحل عدن آمنة مطمئنة ، وفي يافع كُنَّ يخرجنا في الوديان وفي الشعاب والجبال لا يخفن من أحد ، كل من في الشارع يحرسهنَّ ، كانت الجبال تحميهنَّ ، وكذلك الأولاد ؛ لا أحد يسألهم أين خرجتم ، أين ذهبتم ، مع من لعبتم ، كان الشعور الذي يساورهم "الوطن هو ؛ الحرية ، الثقة بالناس ، الأمان" واليوم انتهى كل ذلك . والحال تبدل ؛ جاء الخوف بديلاً عن الأمن ، والقلق بدلاً عن الطمأنينة ، والترقب بديلاً عن التفاؤل . انتشر الخوف ، والقتل ، والمخدرات ، وقطع الطرق في كل مكان . كانت عدنالمدينة الآمنة التي لو خرجت في أي ساعة من الليل لا تخاف ، وتجد الحياة تعم المدينة في أي وقت ، واليوم أصبحت مدينة الخوف ، لا يخرج أحد بعد صلاة العشاء إلَّا للضرورة القصوى التي لا تؤجل إلى صباح اليوم التالي ، وفي يافع أصبح القاتل يقتل في وضح النهار ويعود إلى بيته آمناً مطمئناً ، وبعد أيام تراه في الأسواق وكأنَّه لم يفعل شيء . ما الذي دفعنا إلى هذا الحال ؟؟ ماذا فعلنا في أنفسنا ووطننا ؟؟ لماذا دمرنا الأمان الذي تركه لنا أجدادنا منذ مئات السنين ؟؟ في ثورة 14 أكتوبر 1963 كان الثوار يهربون من المستعمر البريطاني إلى يافع طلباً للأمن ، واليوم في ثورة الحراك أصبحنا نهرب من يافع خوفاً من القتل الغدر ، فهل هذه ثورة على الاستعمار أم أنها ثورة على أنفسنا…؟ لقد ذهب الكثير ممن أعرفهم لشراء بيوت في تركيا لقضاء الإجازات ، حتى وصل عدد الوحدات السكنية التي اشتراها بني قومي تعد بالآلاف…! فهل هذا هو الحل…؟ هذا ليس حلاً أبداً ، هذا يسمونه هروب ، دس الرؤوس في التراب مثل النعام . الحل يا رجال المحاجي أن نعود لشرع أجدادنا ؛ نواجه المفسد ، ونقول كلمة الحق ، ونرد الظالم بألسنتنا وبنادقنا إذا اقتضى الأمر .. لن يفيدنا النجاح وجمع الأموال في بلاد الغربة ، لن يفيدنا بناء بلاد الآخرين وبلادنا تُدمر أمام أعيننا . لن يفيدنا ذلك يا رجال المحاجي . وسنموت والأجيال تلعننا .