أجدني كلما هممتُ بكتابة رثاء أُصاب بالأرق، ألوذ للحظة إلى عزلةٍ أبتغي فيها البُعد عن الخلق، والقرب من عالم البقاء الأبدي. أحاول أن أعتصر حزني ليصير عصارة نصٍّ يجسِّد حياةً لا يسعها نصّ، ولا يحدّها فكر، ولا يقوى على الإحاطة بها كاتبٌ مهما أُوتي من البيان. ماذا أكتب عن فؤادنا؟ رثاءُ الشاعر الأديب شاقٌّ، مؤرق، يبعث على القلق؛ إذ يقف القلم حائرًا صامتًا في حضرة الغياب، فكيف إذا كان الراحل فارسًا من فرسان البيان، تُخشى هيبته وهو مسجّى، ويدفعك الهوس للنظر في مراقي الرثاء؛ أيليقُ به؟ كلا. كل ما خطّه البنان يعجز عن رثاء شاعرٍ أديب عاش هموم أمّته، ومضى صابرًا محتسبًا، كريمًا، لا يرجو إلا مولاه.
الشعراء كثيرون، لكنَّ الحميري صاغ شعرًا سهلًا ممتنعًا، يخاطب الإنسان المسكون بوطنه، المعجون بالأرض، الممتزج بروح الفداء والحلم؛ لقد رأوا في كلماته لسانًا صادقًا يعبِّر عنهم، وينطقُ عن خواطرهم، ويذوذُ عنهم؛ لم يكتبْ إلا لهؤلاء، ولذا سكنَ ضمائرهم، ورأوا فيه فارسَ البيان، النائبُ الشَّريف عن الإنسانِ المهدور.
أما عن خُطَبه، فهي والله من مفاخر ما سمعَ الزمان، وما أقول ذلك تسليةً عن الفقد، وإنما هو الحق الذي آن أوانُه. وإن من قصورنا أن نظل نكتم المفاخر حتىٰ يغيب النجم، فنلتمس الهداية في بقعةِ الأفول!
قال لي أحد المثقفين العرب: «الحميري منقذكم!». قلت: «ممَّ؟». قال: «ما ظهر في مكان إلا بزّ الأقران، وشنَّف الآذان، واستأثر بالانتباه، وأثار الذائقة، وأبان عن اليمن أرضًا وإنسانًا. لقد سكنته اليمن، فهو شاعرٌ مثقف، أديبٌ مسكون بحبٍّ سرمديّ».
رحل فؤاد؛ فبكاه الشُّعراء والأدباء، والكتَّاب، والفقهاء، والسَّاسة. رحلَ فبكته اليمن كلّها. لقد كانَ أمَّة وحده، فكيف العزاء برجلٍ في مكانته؟ إنَّ الفقد عظيم، ولا يدرك عظم الخسارة إلا من عرفه، أو لامسَ طرفًا من مكارمه.
لتنم في رحاب الخلود يا فؤادنا الذي تركنا نبكي الغياب.