عبدالوهاب قطران بلا ترتيب مسبق، وجدتني اليوم في مقيل الصديق الجميل دائم البهاء أحمد عبدالرحمن ، وبين يديه جمع من الأصدقاء الاعزاء المثقفين والصحفيين: مصطفى راجح، والرفيق عبده مرشد، و الدكتور عبدالكريم قاسم علي حسين الضبيبي ، وعبدالكريم الشرعبي. ومجموعة من الأعزاء الحاضرين مقيلنا الفني الجميل.. كان الجو مشبعًا بالود والذكريات، حتى أنفاس المكان كانت تتهامس بشيء من البهجة الخفية. لكن روعة المشهد بلغت ذروتها حين وجدتني، صدفةً سعيدةً، جالسًا بين هامتين من هامات اليمن: على يميني، الأديب والشاعر الكبير عباس الديلمي، صاحب القصائد التي صارت جزءًا من ذاكرة اليمن ووجدانه الوطني : "دمت يا سبتمبر التحرير" والتى، ألّفها في إطار الاحتفاء بثورة 26 سبتمبر. لحنها وغناها الفنان أيوب طارش عبسي، وجاءت كسيمفونية وطنية نابضة بالحياة. ومن أبرز المقاطع: موكب التحرير ألفت القلوبا وتوحدنا شمالا وجنوبا... أيضاً من كلمات عباس الديلمي وغناها أيوب طارش في بداياته. غُني في بدايات السبعينيات، ولاح فيه تفاؤل الشاعر بتحقيق الوحدة، رغم أنها لم تتحق بعد. وغيرها من القصائد كتب كلماتها عباس الديلمي وغناها أيوب طارش بصوت ملؤه الحماسة الوطنية في فترات تاريخية متعددة. إلى جانب الأناشيد الوطنية، كتب عباس الديلمي العديد من القصائد الغنائية العاطفية التي لحنها وغناها فنانون يمنيون كبار، من أبرزها: "يا طبيب الهوى" غناها الفنان أحمد السنيدار، وهي أولى قصائده الغنائية. "نجوم الليل" غنّاها الفنان الراحل علي بن علي الآنسي، وقد أثّرت فيه كثيرًا حين عرف أنها من كتابة الديلمي. ترك الديلمي بصمة أيضًا في الأعمال الإذاعية المغناة، مثل عمله في البرنامج اليومي "حديث الناس" منذ عام 1978، حيث كتب عشرات الأغاني، والعديد منها من النوع الاستعراضي مثل: "خيلت براقاً لمع" (عرض خلال العيد العاشر للوحدة اليمنية) "حوارية السيف والقلم" (ردًا على قصيدة شعبية للرئيس السابق علي عبد الله صالح) من أبرز قصائده المغناة أيضًا (وردت في الموسوعة) "قصيدة البناء والصمود" التي غناها أيضًا أيوب طارش. و كان على يساري، الفنان الكبير أحمد الحبيشي، بصوته الدافئ الذي حمل إلينا حزنه الشجي وغنّى لنا أغنيتين جميلتين بنبرته التي تشبه وقع المطر على قلبٍ مشتاق. الديلمي، برشاقته المعهودة وخفة ظلّه، أسعدنا وأضحكنا بقفشاته وطرائفه، واستدرجنا بحديثه الساحر إلى عوالم الشعر والفن والتاريخ. حدّثنا عن علاقاته وذكرياته مع الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، والرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وأديب اليمن الكبير عبدالله البردوني. روى لنا حكايات قصائده الكبرى، مثل "دمت يا سبتمبر التحرير"، و*"صباح الخير يا وطناً"* التي شدت بها الفنانة السورية أمل عرفة، وزيارة والدها لليمن وانبهاره بجمال قرية الحطيب في حراز، حتى سأله إن كان كل اليمن على هذا النحو من الترتيب والنظافة والرقي. بوحُه الشعري يمتد إلى أولى محاولاته في سن السادسة عشرة حين كان والده قاضيًا في تعز، متنقلًا بين المدن بحكم عمله: وُلد في شرعب الرونة محافظة تعز، ثم عاش في الحجرية بتعز، وانتقل إلى ريمة، قبل أن يستقر والده في المحكمة العليا بصنعاء. وحين سألته عن صلته بالقاضي العلامة زيد الديلمي، الذي كان رئيس المحكمة العليا في عهد الإمام يحيى، قال: "هو جدي لأمي"، ثم حكى كيف اعتزل القضاء بعد خلاف مع الإمام بسبب رفضه إصدار إذن لتفتيش منزل الشاعر الكبير محمد محمود الزبيري. أما أحمد الحبيشي، فقد أدهشنا حضوره رغم وطأة المرض، إذ جاء إلى المقيل متكئًا على عزيمته، لا على صحته، دون أن يمضغ القات، وهو الذي يصارع الفشل الكلوي منذ عامين ويغسل الكلى مرتين في الأسبوع، ويحتاج إلى زراعة كلية في الهند. يلازمه داء السكري وضغط الدم، وفقد بصره في عينه اليسرى جراء خطأ طبي في مصر قبل سنوات. كان حضوره مزيجًا من الفرح والحزن؛ فرحٌ لأننا التقيناه، وحزنٌ لأننا رأينا كيف أنهك المرض فارسًا من فرسان الفن اليمني. هذا اليوم، كان أشبه بصفحة استثنائية من كتاب العمر، جمعت بين الشعر والموسيقى، بين الذاكرة الوطنية الحيّة وصوت الحنين. كأن القدر أراد أن يمنحنا لحظةً نادرة، أكون فيها وسط القصيدة واللحن، بين شاعر كتب للوطن أغنياته الخالدة، وفنانٍ غنّى للحب والناس بصوتٍ يختزن وجع اليمن وجماله في آن.