جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة لثلاثية الإنسان الثورة الوحدة في أشعار «الجابري» الوطنية
الكلمة والقصيدة تسبقان الرصاصة والبندقية في فعل النضال
نشر في الجمهورية يوم 26 - 09 - 2014

في مسيرة كفاح شعبنا اليمني لنيل حريته من حكم الإمام والاحتلال الإنجليزي تنوعت أدوات نضاله وكفاحه، ومثلما سجلت البندقية عناوين بطولات شعبنا من أحرار أبنائه دونت الكلمات بحروف الشعراء مواقف تجاوزت في مضمونها أهداف الرصاص والقذائف؛ إذ تشكلت من أحلام الشعراء المنطلقات الفكرية للحياة التي يناضل شعبنا ليتخلص من كافة مظاهر تخلفها لينال ممكنات تطورها، فسبقت الكلمة والقصيدة الرصاصة والبندقية في معتركي نضال شعبنا اليمني ضد الإمامة والاحتلال.
يؤكد الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح على ذلك بالقول: « لقد كان الشعر في ذلك الزمن يعيش عصره الذهبي والتنويري حيث كان الشعب يلتقط القصيدة - وأحياناً البيت أو البيتين- ولا يكف عن ترديدهما في كل مناسبة. كما كانت قصائد الثورة مصدر تنوير وتأمل، وكان النظام الكهنوتي يخاف الشعر أكثر مما يخاف الرصاص؛ لأن الشعر هو الذي صنع دوائر المعارضة وعملت كلماته العميقة على توسيع هذه الدوائر إلى أن أصبحت الشعب كله. ومن حسن حظ الوطن أن حكامه البائدين كانوا نموذجاً كاريكاتورياً يجد الشعر فيه ما يغنيه من الصور الساخرة»(1)
وإذاً فليس» ثمة مبالغة (2) إذا ما ذهبنا إلى القول: إن دور الكلمة غالباً ما يسبق دور الرصاصة، أو أن دور القصيدة يسبق غالباً دور البندقية في فعل النضال، دونما ينفي هذا القول أيضاً توازيهما وتلازمهما في الكفاح والنضال الشعبيين.
فقد وجد في بعض الأحيان إن لم نقل في كثير من الأحيان أن حمل الثائر في جيب القصيدة، وفي الجيب الآخر الرصاصة، كالموشكي، والقردعي، ومعظم قادة حركة 1948م الدستورية.
واليمن ككثير من البلدان أسهم مثقفوها إلى حد كبير في النضال الوطني، وتعددت أدوات وطرق الكفاح لدى الفئات والشرائح المجتمعية، ولعب الشعراء دوراً مشهوداً وخصوصاً شعراء الأغاني بتلك القصائد الحماسية الوطنية الثورية سواء أثناء التحضير للثورة والاستقلال أو عند قيامهما، وإعلانهما، وبعد ذلك في الدعوة إلى حمايتهما، والعمل على تحقيق أهدافهما في التغيير وأمثال أولئك الشعراء لطفي جعفر أمان، وعبدالله هادي سبيت، ومحمد سعيد جرادة، وعلي عبدالعزيز نصر، وعباس المطاع، وعلي بن علي صبرة، الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، وإبراهيم صادق، وعباس الديلمي، والقائمة طويلة بأسماء الشعراء المنسيين الذين أسهموا بكتابة القصائد الوطنية المغناة بأصوات عمالقة الغناء اليمني ومن بينهم شاعرنا الكبير «أحمد غالب الجابري».
والحقيقة أن كثيراً من الأسماء التي ذكرتها آنفاً تناولتها وسائل الإعلام وبعض الكتابات والدراسات لكن للأسف الشديد لا أدري ما هو السبب الذي جعل كثيراً من المهتمين والدارسين ينسون إسهامات الشاعر الكبير أحمد غالب الجابري ولاسيما قصائده الوطنية المغناة؟.
بل لم نجد لها أثراً من بث إذاعي أو تلفزيوني حتى في المناسبات الوطنية كأعياد الثورة اليمنية باستثناء قصيدة واحدة هي تلك القصيدة التي لحنها وتغنى بها الفنان الكبير أيوب طارش عبسي المشهورة «لمن كل هذه القناديل تضوي لمن؟».
وإزاء هذا الإهمال والتناسي خصصنا هذا الفصل لإبراز إسهامات الشاعر الجابري الثورية مثله مثل غيره ممن سجلوا حضورهم النضالي ضمن حركة الأحرار اليمنية في أواخر منتصف القرن الماضي بالكلمة التي سبقت قذيفة مارد الثورة على قصر البشائر لطرد أسرة حميد الدين، أو بالقصائد التي سبقت بنادق «الجرمل» في جبال ردفان لطرد الاحتلال البريطاني.
سنلاحظ في هذه الدراسة أن من بين إحدى عشرة قصيدة وطنية للجابري أربع قصائد وطنية ذهبن للمرشدي، وثلاث أخريات لحنها الفنان أحمد قاسم أدى بصوته اثنتين «حكاية انفجار 14 أكتوبر» و «يا شعبنا»، والثالثة غناها الفنان خالد سعدين واسمها «يا مسافر»، توزعت بقية القصائد الأربع الأخرى على كل من فرسان خليفة، وطه فارع، عصام خليدي، وأيوب طارش.
وسنقف أمام تلك القصائد التي تؤكد وتثبت حضور شاعرنا في فعل النضال المبكر، وبتعبير آخر الدور النضالي لشاعرنا داخل أهم وأقوى المنعطفات المصيرية والتحولات الثورية والوطنية والقومية في تاريخنا المعاصر من خلال مصفوفة قصائده الوطنية التالية:
1 - «خلي الحمام يا جمال يغني»
لا يستبعد الكاتب أن يكون الشاعر أحمد الجابري من أوائل المحرضين إن لم يكن أولهم للزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر بأن يلتفت صوب اليمن ومعرفة معانات شعبه.
لعلنا أيضاً نستطيع استشفاف مدى ذكاء شاعرنا للفت انتباه عبدالناصر ناحية اليمن من خلال اختياره لفنان له حضور كبير بين الجماهير في اليمن هو الفنان محمد مرشد ناجي الذي كان يجمع بين مواهب التلحين والغناء والأداء والعزف على آلة العود، علاوة على ثقافته الواسعة بألوان التراث الغنائي اليمني، ووعيه النوعي للقضايا الوطنية والقومية والإنسانية.
إن اختيار الجابري للمرشدي يعني ضمان انتشار الأغنية بين الناس بحكم إعجابهم بالفنان وحبهم لفنه من ناحية أولى، ومن ناحية أخرى ضمان وصول الأغنية إلى الرئيس جمال عبدالناصر إما عن طريق الشخصيات اليمنية التي كانت على صلة به أو عن طريق بث الأغنية من إذاعة صوت العرب، والتي كانت حينها تهتم بنشر وإذاعة كل عمل وطني وقومي يحث على الثورة والحرية والقيم التي اتسمت بها طبيعة تلك المرحلة القومية خصوصاً إذا ما كانت الأغاني تأتي على ذكر «جمال عبدالناصر»، وذلك ما حدث بالفعل حيث أُذعيت الأغنية كما أفاد بذلك الأستاذ محمد مرشد ناجي في كتابه «أغنيات وحكايات».
نستشف من كلمات القصيدة مدى الهم الوطني والوحدوي الذي كان يعتمل في وعي شاعرنا؛ إذ عبرت القصيدة بوضوح عن ذلك من خلال الإهداء الذي نشر مع القصيدة في جريدة «الأيام» كما أورد المرشدي في كتابه «أغنيات وحكايات».
«هذه القصيدة بعثها إليّ الطالب الجامعي الشاعر أحمد الجابري من القاهرة بتاريخ 15 / 12 /1960م ونشرها مهداة «إليّ» في جريدة «الأيام» مع الكلمات التالية «الحمام - هذا الطائر العجيب الذي يصعد دوماً إلى السماء يبحث عن الغنيمة الشاردة، والغصن المخضر على ربوة هو هذا الشعب العربي في الشمال والجنوب من اليمن العربية، المتطلع إلى الحرية... أبداً ينشد السعادة في أن يحيا حقيقة ما يريد بعيداً عن الزيف ومظاهر النشوة الكاذبة... وأغنية - إلى جمال - ليست سوى هذه الصورة الحقيقية المقلقة على واجهة الشمس... لاتزال بل وستبقى خالدة خلود الرسالة.. رسالة العرب الكبرى»(3).
ومن تاريخ نشر القصيدة في جريدة «الأيام» وهذه السطور أعلاه ندرك أن الكلمة سبقت رصاصة ثورتي سبتمبر وأكتوبر في التحضير لهما فهذا شاعرنا يحث:
خلي الحمام ويا جمال يغني
صوته شجي أحلى من المغني
ليتك تشوف بين الضلوع جناحه
وإلا النسور كيف ينهشوا جراحه
يبكي على وادي تبن وصنعه
من قهرهم فلت بعيني دمعه
والجابري يقصد بالحمام - كما أفصح في الكلمات المهداة للمرشدي قبل القصيدة - الشعب العربي في الشمال والجنوب من اليمن، فيطالب جمال أن يدع هذا الحمام «الشعب» يغني ولسوف يخاطب جمال «تسمع الحزن من صوته أعذب من صوت المغني... ليتك يا جمال تشوف بين الضلوع، أي داخل حياة هذا الشعب و «إلا النسور» الاستعمار في الجنوب والإمامة في الشمال وأعوانهم وأذنابهم... كيف ينهشون جسد هذا الشعب اليمني أو هذا الحمام «الشعب» يبكي على وادي تبن المحتل، وصنعاء المستبد بها حاكم فرد ظالم.
إن استخدام الشاعر للحمام فيه دلالة لما اشتهر به هذا النوع بين الطيور كرمز للحرية والسلام الإنسانيين، وهو ما مكنه في الأبيات التالية لأن يصرح بطلبه المباشر من جمال عبدالناصر الاستجابة قائلاً:
كل القلوب يا جمال تنادي
تسأل عليك تسأل عليك بلادي
شفديك أنا بالروح بكل غالي
مثل القمر أنت الأمل ببالي
نلمس من هاتين البيتين كيف كان عبد الناصر بالنسبة للشباب المثقف في الخمسينيات والنصف الأول من عقد الستينيات أملاً أخضر في العقول تتعلق عليه أحلام التحرر العربية، أمل كالقمر أو نجم في السماء ينتظر منه تخليص الأمة قيودها، وإيقاظها من غفواتها.
أمسيت أنا من القهد أراعي
نجم السماء شامد له ذراعي
لا هو شرق باكر شيجي محيلة
بعد الفراق واعود لك بليله
أيضاً... في أكثر قصائد الجابري غالباً ما يبدأ بالتعبير عن الضنى والآلام في بداية أو وسط القصيدة، غير أنه يختتمها بالأمل وبأن ممكنات الأفضل هي التي سيكون عليها قادم الحياة.
وهو هنا بعد أن يشرح ل «جمال» طول انتظار الشعب الذي صار ليله معموراً بالقهد «السهر»، وها هوذا منتظر لجمال أن يمدد له ذراعيه ليمسك بها وينقذه مما هو فيه (وصورة المفرد بلفظة «ذراعي» هي ذراع الشعب اليمني) وقد عبر عن الأمل بالقول:
لا هو شرق باكر شيجي محيله
بعد الفراق واعود لك بليله
والمعنى إذا كان الوقت قد تأخر - لأن «شرق» بفتح الشين والراء وتسكين القاف تستخدم بالعامية للتعبير عن التأخر في الصباح فنقول : «اليوم شرق أي اليوم تأخرنا» - وإذا لم يأت جمال «باكر شيجي محيله» احتمال مؤكد أنه سيأتي غداً.
وهذه الثقة بأن «باكر» غداً هي المستقبل الذي سوف يأتي لا محالة، وهو الذي تم على الأرض بعد عامين من نشر القصيدة مغناة، حيث دعم ناصر الثورة اليمنية دعماً لوجستياً غير مسبوق.
كما نستشف من القصيدة واحدية التعبير في وجدان الشاعر بما يؤكد أن اليمانيين وخاصة مثقفيه عاشوا الوحدة في وجدانهم وكيانهم في وقت كان فيه اليمن يمر بظروف تاريخية بالغة التعقيد على كل مستويات وميادين الحياة شمالاً وجنوباً حيث الإمامة المتخلفة والاحتلال المتغطرس القذر.
ومن تاريخ القصيدة نقف على أن قصيدة «إلى جمال» هي باكورة قصائد الجابري الوطنية أو أول قصيدة وطنية له تغنى بها محمد مرشد ناجي، لكن للأسف الشديد بات من النادر جداً الحصول عليها خصوصاً في أسواق الكاسيت، الأمر الذي يقتضي من وزارتي الثقافة والإعلام والمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون تدارك أمثال هذه الأعمال الإبداعية وصيانتها وإعادة نسخها بما يتناسب وطبيعة الأجهزة الرقمية المتطورة في عالم اليوم ليس من أجل الشاعر الجابري، وغيره من الشعراء الكبار أو الفنان المرشدي وغيره من كبار الفنانين اليمنيين وإنما من أجل الحفاظ على ذاكرة الإبداع الاستثنائي في تاريخنا المعاصر، وحمايتها من الانقراض كأشياء جميلة كثيرة انقرضت، ويكفي هذا الجزء من عالمنا العربي استمرار متوالية الفقدان المتكرر لنتاجات مبدعيه جيلاً إثر جيل إلى الحد الذي صرنا فيه وكأننا بلا ذاكرة تاريخية، إن مجتمعاً بلا ذاكرة سيبقى مجتمعاً بلا حاضر ولن يكون له مستقبل.
2 - ثورة الشعب
عقب قيام ثورة ال 26 من سبتمبر العظيمة كتب الجابري معبراً عن فرحته الكبيرة قصيدته المعروفة «ثورة شعب» والتي كانت أول قصيدة يلحنها يومذاك الفنان فرسان خليفة الملقب ب «فريد الأطرش اليمن» وبلبل اليمن، وكان في بداية حياته الفنية.
وكما يؤكد الفنان فرسان أن أول قصيدة وطنية يلحنها كانت للجابري «كان حينها عمري سبع عشرة سنة... وقد عملت أغنية وأنا عمري خمس عشرة سنة قبل أن أعمل أغاني وطنية في القاهرة وصنعاء... الأغنية من كلمات الأستاذ أحمد الجابري بعنوان «ثورة شعب» التي يقول فيها:
من دم الحر اسقها واستمت يا وطني
ثورتي تمضي بها عزةً لليمن
كان أمساً من بقايا العفن
وتبدى فجرنا شامخاً كالزمن
إنه الشعب الذي عاش ليل الظلم
سوف يمضي زخماً يرتوي فيض الدم
لحنتها حينها وغنيتها... وسجلتها للإذاعة وأنا صغير وهي أولى أغنياتي الوطنية.
- هل مازلت تحتفظ بتسجيل لها؟
- لا... للأسف« (4).
نستنتج من الجملة الأخيرة في حديث الفنان أن الأغنية تكاد تكون ضمن مفقودات التراث الفني الغنائي للثورة، هذا إن لم تكن قد فقدت تماماً.
بدليل أن الأبيات الثلاثة التي استشهد بها فرسان خليفة في حواره مع صحيفة 26 سبتمبر هي نفسها الأبيات الواردة في كُتيب صدر عن وزارة الثقافة والسياحة بمناسبة مهرجان تكريم الفنان الكبير فرسان خليفة عام 2004 حيث نشرت القصيدة بنقص بيتين منها، وحال كانت موجودة ويتكرر بثها بمناسبة أعياد ثورة سبتمبر سنوياً لما كانت قد نشرت في الكتيب وبيتان منها محذوفتان.
غير أنني كنت قد نقلت نص القصيدة كاملاً من صحيفة الثورة(5) والبيتان الناقصتان هما:
وعلى الدرب الجماهير التي لم تسأم
تنشد المجد وتمضي لأعالي القمم
إن تعاون الجابري مع فرسان خليفة أثمر في أن الأخير غنى له إلى جانب هذه القصيدة الوطنية ثلاثة أعمال أخرى تكاد تكون مفقودة لم يبق منها سوى عناوينها وهذه الأغاني هي «ردني يماني، وا طالعين صنعاء، البالة» حسب ما جاء بصفحة (17) من كتيب (تغريدة المسافر) والباعث على الاستغراب أن كيف يصدر كتيب عدد صفحاته 17 صفحة بينها (9) صفحات مكررة، والصافي من الإصدار (8) صفحات فقط؟.
وحينها تساءلت في مقالتي المنشورة في صحيفة الثورة (6): لماذا لم يتضمن الكتيب على الأقل حتى عدد الأعمال الشعرية التي أشار إليها في ص 17 وعددها (16) أغنية لحنها فرسان خليفة؟
بل ما جدوى مثل هكذا إصدار لا يشبع حتى أدنى نهم الباحث في الحصول على معلومة منه؟.
3 - انتصرنا (7)
في تقديري أن القصيدة «انتصرنا» التي غناها «المرشدي» ظهرت أيام الاستقلال أو عقبه في الفترة التي كان شاعرنا يقيم فيها بعدن بعد عودته من القاهرة 1966م أي في المرحلة الثانية في تجربته الإبداعية الممتدة حتى عام 1972.
ومن أبيات القصيدة أكتفي بالأبيات التالية:
في المداين في الجبال
كلنا كنا رجال
كنا ثورة كنا نار
في طريق الانتصار
انتوا يا ثوار يا أحرار
يا رمز الكفاح
انتصرتم بالعزائم
بالإرادة بالسلم
وانتصرنا ... يد واحد
والتقينا...شعب واحد
حتى في هذه القصيدة المناسباتية لا ينسى الجابري أن يؤكد واحدية الانتصار والنضال الوطني الواحد بقوله «يد واحد» و«شعب واحد».
إلى جانب هذه القصيدة ثمة قصيدة أخرى أيضاً لحنها وتغنى بها «محمد مرشد ناجي» وتعبر عن ذات المضمون كقصيدة:
4 - حل الهنا وانتصرنا (8)
ومطلعها:
حل الهنا وانتصرنا
والنصر ما حد يبيعه
وأصبحنا من بعد إخوة
نفدي الوطن في ربوعه
ما عاد غيري وغيرك
في ذي الأراضي الوسيعة
والأجنبي قد تخلى
الله يحرق صنيعه (9)
5 - شله السيل (10)
من القصائد الوطنية الرائعة كلمات ولحناً وتعبيراً صادقاً للأثر الكبير الذي خلفه الاستقلال في الوعي الجمعي الذي جسده شاعرنا بالكتابة والفنان باللحن والغناء قصيدة «حط الوادي شله السيل».
وتتجلى الروعة في نص القصيدة منذ مطلعها بتصويرها لعملاء الاستعمار وأسدانه ب «أول ذيل» أو «أول الذيل»؛ لأن الاستعمار في وجدان الشاعر حيوان كله ذيل أو له عملاؤه أو أذنابه من سلاطين وأمراء وشيوخ وتجار وآخره ذيل الاستعمار جنوده.
والشاعر المقتدر أي شاعر هو الذي يستطيع أن يخلق الجديد في جملته الشعرية من خلال عكس الواقع في منتجه الشعري الفني... ففي حين كانت تردد الناس يوم الاستقلال التاريخي في مدينة عدن، وكافة أصقاع ربوع الوطن:
- اليوم خرج آخر جندي بريطاني من عدن.
- اليوم فرت مهزومة أذيال الاستعمار.
كان الجابري بذكاء الشاعر يترجم تلك الأحاسيس بلغة الشعر مستخدماً اللهجة التعبيرية الأقرب إلى فهوم الناس.
ذهب يشبه الاستعمار بالحجر الذي وقع فجأة في مدرب ومجرى السيل.
إن حجراً كهذا سيكون من الطبيعي أن «يشله» أي يجرفه السيل في طريقه.
غير أن السيل هنا ليس السيل «الحسي» وإنما السيل المجازي وهو «الشعب»، الحجر هو «الاستعمار»، والذيل/ الأذيال هم «العملاء»، وأول ذيل هو أول عميل للاستعمار خرج هارباً من عدن.
فعندما كان وفد الجبهة القومية إلى مدينة جنيف بسويسرا يتفاوض مع الوفد البريطاني على الاستقلال كان أكبر أذيال بريطانيا في عدن يحزمون أمتعتهم ويلوذون بالفرار إما إلى شمال اليمن أو دول الجوار وإلى دول أخرى... وهذا الأمر هو الذي عبر عنه شاعرنا بقوله:
حط الوادي شله السيل
بعد ما ولى أول ذيل
ماشي يقدر يرجع ثاني
هذي أرضي وهذي حدودي
ماشي يقدر يرجع تاني
إلى أن يقول:
زرعي بيكبر زرعي الأخضر
يا للي زرعت الريف والبندر
بدماء الثورة لونه الأحمر
شوفنا جمالة الليلة منور
حتى هذه القصيدة المغناة لحناً وأداءً بصوت المرشدي يندر الحصول عليها وحبذا لو تتكرم إذاعاتنا بإعادة بثها في المناسبات الوطنية قبل أن يأتي عليها الفناء وهي في أراشيفها... وليت مؤسسات الإنتاج والتوزيع الفني تتواصل مع وزارة الإعلام للحصول على موافقتها في إعادة نشرها وحفظها من التلف والضياع، لما تمثله تلك الألحان والكلمات من أهمية في مدونة ذاكرة النضال الوطني.
6 - حكاية انفجار 14 أكتوبر (11)
من أكبر قصائد الجابري الشعرية الغنائية فيها 28 بيتاً، القافية فيها بلغت 11 قافية، قد يطول تفكيك القصيدة حال قمت بذلك بغية تحليلها إلى دراسة مستقلة ككثير من قصائده، لهذا أرجئ مثل هكذا قراءة تحليلية وناقدة إلى غيري أو إلى وقت آخر مكتفياً بالقول: إن هذه القصيدة تمحورت أبياتها حول مجموعة أفكار هي: التذكير بحكاية الاحتلال، فساده، ظلمه، أطماعه في ثماني أبيات اخترت منها:
الحكاية من البداية إلى النهاية
تذكروها؟
أيوه نذكرها الحكاية
ثم يذكرهم:
تذكروا أيام بلدنا لما كانت قبل ذا مستعمرة
والأجانب كانوا فيها والفساد والمسخرة
كنا فيها مغلوبين يحكمونا الطامعين
التذكير بكفاح الشعب وإخراج الإنجليز
استطعنا بالكفاح والعزيمة والسلاح
نقهر الأعداء بالإيمان نمحي عارنا
بعدما أصبحنا نشعر أن ذا من حقنا
الفكرة الثالثة يصف فيها مرحلة البناء والعمل ويؤكد على أن الشباب هم الأمل وعليهم بهمة الإخلاص:
بالعمل وحده نتحدى الزمن
الموارد مش قليلة والأراضي مش بخيلة
بالعمل نقدر نعيش والأمل ما ينتهيش
بالشباب بكل واحد عند همه عند ساعد
والجابري في الفكرة الرابعة من حكاية 14 أكتوبر يلفت الانتباه بحسه الشاعري إلى أعداء الثورة المتآمرين:
المهم مش بس ذا... المهم أن العدا
كلهم متربصين... كلهم متصورين
أن هذا الشعب لابد ما يلين
يحسبوا الشعب اللي كافح با يلين
في الفكرة الخامسة يوضح استحالة الخضوع:
مستحيل في يوم نخضع... لا ولا في يوم نركع
شعبي أقوى من كذا يا طامعين... وانتهت كل الحكاية
كذلك هذه القصيدة على رغم أنها مغناة بصوت أحمد قاسم باتت في طي العدم، وتلافيف الضياع ولا يكاد يتذكرها إلا القليلون.
7 - يا شعبنا (12)
إن الاعتزاز بالانتماء إلى شعب ما غريزة طبيعية.
غير أن تقدير عظمة الشعوب، وعدم الاستهانة بجبروتها في كفاحها وبإراداتها، مثل هكذا تقدير ليس غريزة، وإنما إدراك واع وعميق خصوصاً عند الشعراء الخُلص وليسوا كل الشعراء.
وحدهم الشعراء الخُلَص من يستطيعون إدراك قدرة الشعوب وطاقاتها إدراكاً ممزوجاً بالإيمان الصرف من أن الأعمال الجسيمة لنيل الحرية وفعل النضال والبناء والتطور هي في النهاية خلاصة جهد كلي شعبي.
قصيدة «يا شعبنا» التي لحنها وغناها أحمد قاسم تحاكي ذلك الإدراك الواعي بإرادة الشعب اليمني.
يا شعبنا
يا صرخة الثوار
يا قمم الإباء
أنت الذي علمتنا
وعرفنا فيك الاقتداء
وأنت من بدأ النداء
عرفتنا معنى الضياء
يا شعبنا ... يا شعبنا
وما يميز هذه القصيدة الوطنية من بين قصائده الوطنية الأخرى أنها لم تكن مناسباتية؛ فهي قصيدة تستحث الشعب بإخراج ما في مخزونه من طاقة جبارة لرص الصفوف والتطلع والمضي قدماً نحو البناء.
هذي مواكب زحفنا تمضي بنا
وتشدنا آمالنا نحو البناء
وهنا الرجال عرفتهم يمضون في عزم أكيد
فيد تدافع هاهنا ويد ستبني من جديد
ما أروعك يا شعبنا في ضجة الأحداث والآمال والخطب الجسيم
تمضي بنا راياتنا في موكب النصر العظيم
غنِّ لنا وامضِ بنا فلكم تحقق لي اليقين
إن الشعوب إذا مضت في زحفنا لا تستكين
يا شعبنا ... يا شعبنا
أنت الذي علمتنا وعرفنا فيك الاقتداء.
8 - يا مسافر (13)
قصيدة يا مسافر أقرب إلى لهجة العدنيين أو المصريين من الناحية الإيقاعية للمفردات، والقصيدة على رغم أنها مناسباتية، أي كتبها الجابري خلال الفترة الثانية الممتدة من 1966 حتى 1972م وتحديداً بعد الاستقلال في ذكرى ثورة أكتوبر المجيدة، رغم أن القصيدة تحتفي بمناسبة بيد أنها وبعض القصائد يمتزج فيها البعد الوطني مع البعد العاطفي، وهذا المزج ظهر في قصيدة «خلي الحمام ويا جمال يغني... صوته شجي أحلى من المغني» وذكرناها سابقاً.
من مزايا هذه القصيدة أنها ربما القصيدة الأذكى بين جميع القصائد الأخرى؛ يدس الجابري فيها أشياء كثيرة، فهو يحتفي بعيد أكتوبر الذي أهل على أرض المسافر الذي سافر أثناء أيام شهر أكتوبر التي تسبق عيده، وهو يعاتب هذا المسافر من ناحية، لكنه من ناحية ثانية ينتقد الظرف الذي أجبر المسافر لأن يترك بلده انتقاداً غير مصرح به أو مباشراً حيث قال:
يا مسافر لك
على غير بلدك
على أرض بعيد
وبلادك عيد
تسألني عليك
فين المواعيد
ارجع لي وعود
يا عيوني السود
ذا اكتوبر هلّ
على أرضك حلّ
ويقول مبروك
مبروك العيد
ولكنه عندما ينتقل إلى الفكرة الثانية من القصيدة التي يتضح منها أن المسافر صار خارج البلد يذكره الشاعر:
غنيتْ ليال
وشغلتْ البال
طمني عليك
واشرح لي الحال
وكأن الذي يخاطب المسافر بلاده التي سافر منها طالبة منه بريداً بهذه المناسبة وتحثه على العودة.
ابعث لي بريد
على شان العيد
ارجع لي وعود
يا عيوني السود
وبأسلوب عاطفي يخاطبه:
يا عيون غزلان
وخدود رمان
خلوني أهيم
في الحب زمان
ليش بس تغيب
يا أعز حبيب
ارجع لي وعود
يا عيوني السود
ذا اكتوبر هلّ
على أرضك حلّ
ويقول مبروك
مبروك العيد
ثمة عتاب ونقد أو استقراء للمستقبل في سياق غنائي وظف الشاعر فيه واحدة من أدوات البلاغة والتعبير هي أداة التضمين التي تحمل معاني أخرى غير المعاني الظاهرة في سياق النص.
ففي حين تحتفي القصيدة بمناسبة وطنية يفترض أن يحضرها كل أبناء الوطن ويعيش أفراحها الجميع نلاحظ العكس، فثمة مسافر - أثناء المناسبة - إلى أرض بعيدة.
بل إنني أقول هنا بالقاعدة «المعنى في بطن الشاعر» كأن الجابري أراد أن يمرر في هذه القصيدة خيبة الأمل أو خيبة الأحلام التي كانت معلقة على الثورة أن تتحقق فذهبت أدراجها، ولما أدرك خطورة النتيجة التي قد تجر عليه المتاعب اكتفى بالعتاب للمسافر ومطالبته بالعودة، وهي إشارة ذكية وخادعة لا يستطيع أن يقوم بها سوى المبدعين، إشارة إلى أن هناك من بات غير قادر على البقاء في البلاد، وفي هذه الإشارة تلميح إلى واقع سيء وصار طارداً لأجمل أبنائها «يا عيون غزلان وخدود رمان» حتى لا تفسر هذه الإشارة والتلميح بما قد يؤلب عليه المتاعب يخادع في إشارته حيث يهرب قائلاً: «ارجع لي وعود يا عيوني السود... ذا اكتوبر هلّ على أرضك حل» وبهذا التهرب يجعل كثيرين حائرين ممن قد يذهبون إلى أنه ينتقد الواقع كونه ينادي المسافرين ويحثهم على العودة وكونه يبارك للشعب بعودة اكتوبر.
ويؤكد ما فحواه في هذه السطور أن القصيدة لم يغنها الفنان الفقيد أحمد بن أحمد قاسم الذي وضع لحنها وإنما الفنان خالد سعدين.
9 - بعد الكفاح (14)
قصيدة بعد الكفاح من القصائد التي عبر فيها الشاعر عن الفرح بالاستقلال يلاحظ من النص أنه كتب في مناسبة عيد الاستقلال.
ومن حيث اللغة في تقديري أن القصيدة أقرب إلى الفصحى منها إلى العامية العدنية من قبيل القاعدة القائلة «في الشعر يصرف ما لا يتصرف في اللغة»؛ كون التصريف يُفرض تبعاً للوزن الإيقاعي (الموسيقى) دونما يحدث تغير اللفظ المعنى، وحال جاءت المفردات الواردة في القصيدة نحو (معاه) وهي دارجة = بالفصحى (معه)، هناه = هناؤه، نداه= نداءه. لكانت القصيدة كلها فصحى.
إن تلك المفردات الثلاث أخرجت القصيدة من صنف الفصحى إلى صنف العامية والقصيدة لحنها حسين فقيه، وشدت بها بهجة نعمان وتقول كلماتها:
بعد الكفاح
غنى الصباح
أشرق ولاح
في أرضنا بعد الكفاح
غني معاه
غني هناه
واسمع نداه في عيدنا
بعد الكفاح
الليل عيد
والكل سعيد
غني النشيد يا شعبنا
بعد الكفاح
يلاحظ من هذه الأبيات شحة الشعرية وندرتها وسيطرة الإيقاع والنظم على الأبيات.
لكن عندما يكتب الجابري القصيدة بالفصحى فإنه يرتقي ويتسلطن على مملكة الشعر خصوصاً في قصائده الوطنية التالية:
أنا الشعب، وصباح الخير، وثورة شعب، لمن كل هذه القناديل.
10 - أنا الشعب (15)
تضج القصيدة بازدحام الصورة الشعرية وكثافة التعبير والإيجاز، وقد لحن كلماتها المبدع جميل غانم وتغنى بها كل من الفنانين طه فارع وحسين الفقيه وتعبر عن حصول الشعب على الحرية وانعتاقه من ربقة الاستعباد:
أنا الشعب أنشودة للفداء
وصوت الضمير ورجع الصدى
أموت وأحيا على دربه
إذا اشتد خطب وضج الندا
ولننظر إلى التضاد الجمالي في موضوعي الحياة والموت وكذلك الجناس بين نفي بقاء الأرض مملوكة كأنها جارية ونفيه بقاء الإنسان عبداً للغير.
فمنا الذي عاش حراً هنا
ومنا الذي مات مستشهدا
فما عُدت يا أرض مملوكة
وما عدتُ للغير مستعبدا
ثم ما أجمل السرور الذي نتج عن التحرر وجعله يشير لشعوب الأرض.
وهذي سمائي مفتوحة.
تمد لكل الشعوب اليدا
سأحميك أرضي بروحي أنا
وأدفع عنك طموع العِدا
11 صباح الخير يا وطني (16)
قصيدة لحنها وتغنى بها الفنان الرائع والكاتب المبدع عصام خليدي وتقريباً كتبها قبل الوحدة.
صباح الخير يا وطني
بك الأرواح لم تهن
فأنت الحب في صنعاء
وأنت الشوق في عدن
إذا غنيت في ولهي
أعاد الرجع ذو يزن
فكنت الصب لا تعجب
ومثلي عاشق اليمن
12 - لمن كل هذه القناديل (17)
وحدة ال 22 من مايو 1990م كانت حدثاً تاريخياً نادراً ليس لنا وحدنا اليمنيين وإنما الحدث الوحدوي النادر في المنطقتين العربية والإسلامية، هذا اليوم كان موعوداً في ذاكرة الشعب اليمني عامة، حلم الأحلام وأمل الأمنيات، انبجست ينابيع الإبداع في التعبير عن اليوم الذي يتعانق فيه الشمال والجنوب.
والجابري عانى مرارة التشطير وطالته عذاباته، وتجزأت حياته بين قطريه، فهو ابن الشمال المولود في مدينة عدن، والخارج منها قسرياً إلى الشمال عام 1972م تاركاً فيها ذكريات الطفولة والصبا والشباب وسنوات العطاء، تاركاً الأهل والأصدقاء.
وبعدها ضاقت عليه الشمال فلم يجد غير الهجرة إلى الخليج، وقامت الوحدة وهو بعيد عن مسقط رأسه عدن وحاضنته تعز، فكيف نتصوره يعبر عن هذه اللحظة الفارقة في التاريخ العربي المعاصر بعد رحلة التشطير والهجرة وهو الذي نادى قبل ثلاثين عاماً جمال عبدالناصر (خلي الحمام ويا جمال يغني... صوته شجي أحلى من المغني) ليساعد اليمن على الحرية من نهش النسور الجارحة.
لم يجد سوى أسئلة الابتهاج والاندهاش التي تتفاجأ بالحدث غير المتوقع:
لمن كل هذي القناديل تغني لمن؟
وهذي المواويل في العرس تشدو لمن؟
أللأرض عاد لها ذو يزن؟
فعاد الزمن وعادت عدن؟
أستغرب كيف فهم البعض أن الجابري وقع في خطأ عندما قال (وعادت عدن) إذ فهموا كأن عدن كانت غائبة هاربة أو لماذا لم يقل فعاد الزمن وعادت صنعاء مثلاً؟
وفهم على غير ما قصده الشاعر في أن عدن كانت رافضة أن تعود، وهذا غير صحيح لأن عودة الزمن إشارة إلى الزمن الموحد لليمن تاريخياً، عاد اليوم بقيام الوحدة، وعودة عدن مفردة فرضتها القافية في الأبيات السابقة من ناحية وإذا كان قصد الشاعر بعدن أنها كانت مفصولة عن الزمن اليمني فهذا صحيح؛ لأنها احتلت عام 1839م ومنذ احتلت ظلت غائبة عن اليمن ومفصولة مع بقية المحافظات الست التي كانت موزعة تحت سيطرة السلطنات والمشيخات والإمارات الموجهة من حكومة مستعمرة عدن، وليس المقصود أن من لم يعد عدن إلى الزمن جمهورية اليمن الديمقراطية وإنما ظرف تاريخي أبعد وهذا صحيح.
وعودة إلى بداية القصيدة، ما أجمل السؤال البريء، الذي دفع صاحبه إلى أن يستغرب غناء القناديل المعلقة ويسأل: لمن كل هذه القناديل المعلقة ليس في وفوق سماء اليمن بل وسماء الوجود... لمن تعزف وتغني؟
وليست القناديل وحدها التي تنشد الأغاني... فثمة مواويل تشاركها الغناء في عرس وتشدو... أيضاً لمن؟
ويكون الجواب على السؤالين بالسؤال:
هل عاد الملك سيف بن ذي يزن إلى أرض اليمن؟
إذا كان الأمر كذلك، فقد عاد الزمان المفقود، زمن التوحد.
كما أن الزمن في اللغة ليس شرطاً أن يكون من الماضي، الزمن خط ممتد من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. هذا جانب، أما الجانب الآخر الذي يهمنا هنا هو أن جملة «وعادت عدن» جاءت في سياق البيت الشعري الذي فرضته أداتا الوزن والقافية في نص القصيدة.
لا يكتفي شاعرنا بالاحتفاء بتحقق واحدية الأرض بل نجده يأمر «الدولة الموحدة» باستعادة مجد الأسلاف، وأن تجمع وتحشد نجوم الوطن المتناثرة والمقصود «مبدعي اليمن» آمراً إياها أي الوحدة أن تشد أزرها لتغدوا بهم في عملية السير ناحية المستقبل.
أعيدي لنا
مجد أسلافنا
وشدي النجوم
وسيري بنا
إن ما يميز هذه القصيدة تزاحم الصور الجميلة مثل «إطلالة الشمس على العُشب»، «استعادة مجد الأسلاف»، «سماء اليمن فيض السناء»، «ثر ينابيع الأرض اليمنية، فيض سناء السماء»، والسير على الغيم فوق رفيف المنى، وأترك الأبيات لتتحدث من تلقاء نفسها:
على الغيم
فوق رفيف المنى
وثر الينابيع
في أرضنا
فبالحب نحيا
ويحيا الوطن
لمن؟
لمن؟
لأجل اليمن
أيا وحدة الشعب حلم السنين
ويا قبلة الحب للعاشقين
أطلت على العشب
شمس لنا
تضيء الطريق
وتمشي بنا
لنطوي المسافات
عبر الزمن
لمن؟
لمن؟
لأجل اليمن
فديتك صنعاء يا موطني
بروحي بأنقى دمٍ مؤمن
وهذي سماؤك فيض السناء
لكل البطولات في أرضنا
سنحيا ونفنى لتبقى اليمن
لمن؟
لمن؟
لأجل اليمن
إن هذه القصيدة تعد واحدة من أجمل القصائد الغنائية الوطنية التي عبرت بصدق وجداني عن لحظة العرس الوحدوي.
قصيدة تماهى متألقاً في تلحينها، وتأديتها عميد الأغاني الوطنية أيوب طارش العبسي الذي يعد ثالث الثلاثة الذين نالوا النصيب الأكبر من شعر الجابري «أحمد بن أحمد قاسم، محمد مرشد ناجي».
المراجع والهوامش:
- هذه المادة كانت جزءاً من دراسة كبيرة توثيقية للتجربة الشعرية الغنائية للشاعر الكبير أحمد غالب الجابري، للأسف الشديد توقفت عن استكمالها إلى حين آخر بسبب إما نقص القصائد الغنائية أو نقص بعض المعلومات عن بعض القصائد المغناة.
1 -أ.د. عبد العزيز المقالح، الفضول، الحاضر الغائب بعد خمسة وعشرين عاماً صحيفة 26 سبتمبر العدد: 1336 ، الخميس 12 يوليو-تموز 2007.
2 منصور السروري، ثلاثية الثورة - الشعب - الوحدة - في قناديل الجابري الحلقة الأولى «صحيفة الثورة، الإثنين 14 ذو القعدة 1430ه الموافق 2نوفمبر2009م العدد(16427) صفحة(19) أدب وثقافة.
3 - المرشدي، محمد مرشد ناجي-أغنيات وحكايات ص 214.
4 -فرسان خليفة في حوار مع محمد عبد العزيز لصحيفة 26 سبتمبر عدد 1232، الخميس 24 نوفمبر-تشرين الثاني 2005م أدب وثقافة صفحة 10.
-5 بقية الأبيات الواردة والمحذوفة من كتيب (تغريدة المسافر) وجدتها بصحيفة الثورة في عددها الصادر بتاريخ 29 /9 /2009م.
-6 ثلاثية الثورة - الشعب - الوحدة - في قناديل الجابري الحلقة الثانية (صحيفة الثورة، الثلاثاء 15 ذو القعدة 1430ه الموافق 3نوفمبر2009م العدد(16428) صفحة(14) أدب وثقافة.
7 - موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين ص 294.
8 - موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين ص 295
9 -نفس المرجع السابق ص 295.
10 -موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص 277.
5 -موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص 270.
11 - موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص 282، 283
12 - موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص270.
13 - موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص 268.
14 - موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص 281.
15 -موسوعة الغناء اليمني في القرن العشرين ص 281.
16 -مصدر القصيدة: العبسي / أيوب طارش، لسان الوطن والحب تعز: مؤسسة السعيد للعلوم الثقافية 2013م ص 260


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.