من الحقائق التي لا يكابر عليها أحد أن الوطن يكبر بفنانيه ومبدعيه؛ نظراً لما يحتله الفن من مرتبة لها الصدارة في الإبداع ، ولأن الحضارات المحترمة هي تلك التي احترمت كل ما أنتجه الإنسان وأبدعه، ولا أعتقد في هذا السياق أن هناك أمة كرّمت المبدعين من أبنائها، وأولت الفنون اهتماماً كبيراً لم يضف ذلك إلى رصيدها التقدمي والنهضوي، بل على العكس من ذلك لقد مثّلت الفنون لكثير من الأمم عوامل معتبرة في النهوض والتقدم. لا بد في هذا المقام من الوقوف أمام مايذهب إليه البعض من التساؤل عن أهمية عطاءات الشاعر الراحل الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول في تجربة الفنان المبدع الكبير أيوب طارش الغنائية، ويزعم هذا البعض أن مجده وحضوره الفني وشهرته قد جاءت بفضل النهر الفضولي الجاري منذ ستينيات القرن الماضي بين العملاقين، ورفدها لهذه التجربة الغنائية الثرية بالكثير من الروائع النعمانية التي عرفت بصوت وادء العبسي ، في حين يذهب البعض الآخر إلى أن شهرة ومجد وحضور الشاعر الغنائي الكبير النعمان وتجاوزه المحلية التعزية كان بفضل صوت واداء المبدع أيوب طارش، ومثل هذه التخريجات والتساؤلات، تنطلق – بلا شك - من حبٍّ شديد لأحد قطبي العملية الإبداعية وهي ترتقي إلى مستوى عالٍ من التجارب الفنية، وتأتي في سياق النزوع إلى تحليل وتفكيك تلك العملية من قبل الكثير من المهتمين بالأعمال الفنية الغنائية، أو إلى عشق العامة لنماذجهم الإبداعية وتعصبهم في الحب إليهم حد إنكار الآخر أو إلغائه. وهما رأيان لا نراهما بتاتاً ، ولا يمتّان للحقاءق الفنية بصلة نظراً لأن الفضول وطارش كانا صنواناً لا يفترقان أو بالأصح لا يفرق بينهما احد ، ولا يستطيع ان يقدم أحدهما على الآخر لما كانا يمثلاه من جناحين لطائر لا يستطيع أن يطير بأحدهما. ونرى في السياق ذاته ما يراه الكثير عن حقيقة علاقتهما الفنية من أن ثنائية (الفضول، عبسي ) قد اندمجت وتماهت حداً جعلها ذاتاً فنية واحدة نجحت في إبقاء تساؤلاتها التي يتناولها الشارع الفني كثيراً دون التفات إلى خصوصية العلاقة وعمقها التي جمعت بين عملاقي الأغنية التعزية منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، فقد توثقت عرى العلاقة الفنية لتغدو رؤية فنية وحياتية واحدة تدفع إلى الواجهة الفنية العربية بروائع كانت رسالة الفن الخالدة لتعز، وشكلت عمقاً وتأصيلاً جديداً يؤكد مدى تأثيرها في الحركة الفنية لتبيين هذه العلاقة ومدى قرب الثنائي من بعضهما .. أضع بين يدي القارىء بعض القصائد التي ما عرفنا انها للفضول إلا من خلال صوت أيوب طارش عبسي ، أي بمجرد غناء ايوب لها ندرك أنها من الشعر الفضولي: وا صبايا وا ملاح هيا أقطفين لي مشاقر وارصفين لي الورود الحمر وسط المزاهر واطرحين الكواذي البيض بين المباخر لحبيبي هو حبيب القلب أول وآخر وأعملين لي كبوش الفل مفرش منقّش بالعطور بالندى مبلول مسقّى مرشرش فرحتي فرحة الطاير رأى الفجر غبّش ضيف قلبي أتى عندي مُقيّل وسامر صوت قلبي يغنّي لي اسمعين صوت قلبي والمغاني الملاح يأتين من أجل حبي والحبيب تحت ضوء الحسن منصت بجنبي سحر عينيه وا صبايا قد غلب ألف ساحر ياقمر يا نجوم ياشمس بالله غيبي لفلفي ضوئك من الدنيا ويكفي حبيبي ليت كل القلوب ياناس كانت قلوبي ربما يوسعين حبي فهو بحر زاخر وقصيدته أيضاً : عدن.. عدن فيها الهوى مُلَوَّن لكن لمن أسلو بها أو أشتكي وأحزن لا اشتد لي فيها وتر ولا رن عيشي حزن القلب أنْ وما عليه لو أنْ لا البعد هان ولا الوصال أمكن لو ما عرفت الحب كان أحسن يبكي شجن صنعاءاليمن قلبي لتُربتك حن ما لاح بارق فيك أو مطر شن وانا وأشواقي أنام واذهن حتى الزمن من ذي يزن فيك الهوى تمكّن غنّى على صنعاءاليمن ودندن أرض الملاح الغيد جنة الفن وقصيدته أيضاً : رشّوا عطور الكاذية على العروس الغالية وعوَّذوها بالنبي وادعوا لها بالعافية صفّوا الصفوف دقّوا الدفوف شلّوا الزفوف العالية زفّوا وحفّوا للجميل أحلى ورود الرابية يكفي عريسك يا عروس هذي العيون الساجية تسوى وتستاهل إذا عَدَّ الألوف الوافية ياليلة العمر الهني طولي بفرحه هانية خلّي العروسه والعريس فوق النجوم السارية وأنتَ وا قلب العريس نلت المُنى نلت الهنا من فرحتك أفراحنا قد أفرحتنا كلنا أسمع زغاريد القلوب من الصبايا حولنا وكل شبَّان القرى قد شاركونا في الهنا والكاذيات البيض قد نامت على أحضاننا والزهر والأنسام قد باتت سهارى عندنا وصوت ماء الغيل قد غنّى على أصواتنا والقمريات الزاجمات غنّت أغانيها لنا والليل غنّى مثلنا والنجم أمسى ضيفنا هذي عروس الفاتنات قد زيّنت أفراحنا نمشي وتمشي بعدنا والحُب يمشي قبلنا مرحباً بك وازين الشباب طاب عيشك بالمسرّات طاب عليك من الحُسَّاد ألفين حجاب معلّقات فوق كل طاقة وباب ياليت والأيام توفي الوعود شاعطِّر الدنيا بعرف الورود وابخّر أيامي بعنبر وعود و اسامر الريحان فوق الخدود في هذه النصوص الشعرية الغنائية التي تماهت فيها الكلمات باللحن بالصوت مشكّلة رائعة غنائية هي من درر الغناء في تجربة الفنانين « الفضول ، عبسي » وقد كان لقدراتهما الأدائية حضور كبير في إيصال المضامين بعمق، وما نود أن نلفت إليه في عبقرية الشاعر الفضول وهو ينضم مثل هذه النصوص مراعاته لطبيعة الفنية لدى أيوب طارش عبسي ، فقد عمد الشاعر إلى ما يشبه تقطيع اللحن وفقاً والتقطيع الشعري، فكل شطر جملة لحنية تتكرر بمثلها في المقاطع جميعها، وأيوب عندما يبلغ في بوحه الغنائي إلى المقاطع الأخير نجده بحنكته الفنية يترجمها من خلال أوتار تنم عن تعايش عميق مع الكلمة. ومثل هذا الكلام يقودنا إلى كلام البردوني عن الفضول في حديثه عنه وعن الثنائية التي جمعته مع ايوب طارش إذ قال البردوني : «كان عند عبدالله عبدالوهاب تصوّر للقصيدة التي أنشاها للغناء.. وكان يوحي لأيوب كيف يمكن أن تؤدى لكن لا يؤديها أيوب كما عزفها عبدالله، لأن عبدالله كان يحاول أن يشتم سيكولوجية الكلمة، فيضع لها لحناً”. ويقول عنه ايضاً “ عبدالله عبدالوهاب لم يلحن لحناً جيداً.. وإنما كان عنده تهيؤ نفسي إلى أن هذه الكلمة تؤدى صوتياً هكذا، تمد هذه العبارة، تقصر هذه العبارة، يلتوي هنا الصوت!!.. فكان عند عبدالله عبدالوهاب تصور غنائي من إيحاء الكلمة ومن إيقاع سياقها في القصيدة”. ويقول أيضاً “ أما أن عبدالله عبدالوهاب أول شاعر غنائي فهذه حقيقة!!.. لأن عبدالله أول شاعر تخصص بالأغنية.. وأقول تخصص بالأغنية، أي أن قصائده غنيت غناءً جيداً!!.. ثم أن قصائده التي غناها أيوب طارش وغيره تصلح للقراءة لأنها نص أدبي جيد.. وهذا تحوّل من عبدالله عبدالوهاب ، إذ تحوّل من القصيدة السياسية إلى القصيدة الغنائية.. إلى جانب تعاليق سياسية كانت ذات طابع أدبي، وذات طابع فكري، وذات إيقاع خاص.. فعبد الله يبدو من الناس الذين يملكون موهبة عريضة, لكن التي ظهرت من مواهبه هي شعر الأغنية وتوفيقه بفنان عرف أن يؤدي كلمته بالشكل الذي يرضيه»!! ما سبق كانت نظرات عجلى في تجربة شاعرنا الكبير الفضول ، وتوأم روحه وشعره أيوب طارش عبسي ، قد نكون وفقنا فيها أو في بعضها، وقد نكون جانبنا الصواب، ولكننا أحببنا أن نشارك هذا الشاعر العذب احتفاءه له منا كل الحب.