عندما يخرج شعب في مسيرة سلمية، لإسقاط ديكتاتورية، وتهرول كل القوى في العالم من الصين وروسيا والغرب والولايات المتحدةالأمريكية لتعقد تفاهمات تستمر لأكثر من عامين غير عابئة بدماء الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، فاعلم أنك في مكان ستشرق منه الشمس، لا يهولك كل هذه الدماء، فذلك قدر إنسان الشرق أن يستعيد حريته وكرامته بقوة السلاح من أنظمة فقدت شرعيتها ابتداء، وقدره أن لا يمن عليه أحد بهذه الحرية ولا أن يبتزه أو يساومه عليها لاحقاً. إن الزلزال الاستراتيجي الحاصل في سوريا أكبر بكثير من الزلزال الذي ضرب منطقة غرب العالم العربي ( مصر وتونس وليبيا )، واللحظة الفارقة التي تشهدها هي مشابهة إن لم تكن مطابقة للحظة التي تدافعت فيها القوى الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية لرسم حدود نفوذها حيث ارتكبت الجريمة الأبشع على الإطلاق في تاريخنا عندما قسمتنا بريطانيا وفرنسا منذ مئة عام بالحدود القطرية التي نعرفها اليوم، وسمحنا بتوجيه الإهانة الأكبر لتاريخنا وحضارتنا ومنطقتنا، وعلى إثر تشكيل الجغرافيا والسياسة على يدهم...تشكلت أفكارنا ووعينا من خلالهم...واختلطت بعصبنا ولحمنا ودساتير بلادنا وحتى حاجتنا النفسية.. فنحن لا نرى إلا أفلامهم ولا نعرف إلا أخبارهم ولا نتابع إلا موضاتهم. اليوم سوريا تعيد رسم الخارطة كاملة، وترسل لنا إشارات واضحة لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، لو تخيلنا فقط حدوداً متصلة من البصرة إلى بيروت عبوراً بعمان، كيف يمكن لأي كيان غاصب وظالم الاستمرار حياً في الشرق الجديد. لو تخيلنا شرقاً يتجاور فيه السني والعلوي والشيعي والمسلم والمسيحي والعربي والكردي على أساس واحد فقط هو الانتماء لهذا الشرق الجديد، ماهي إمكانيات التنمية والتقدم؟ إلا أن ما يراد لنا هو شيء آخر، فشرق حر وسوريا حرة وعراق حر واتحاداً بين مكونات هذه المنطقة، يعني قراراً حراً خارج نطاق سلطات القوى الكبرى في أهم منطقة في العالم، وذلك لن يمنح لشعوب هذه المنطقة بل عليها انتزاعه، وقد تكون الخطوة المنطقية الأولى في هذا السياق، تفادي الفخ المذهبي وعدم الانجرار إلى الحديث الطائفي، ولن ننكر بأي حال المشاهدات والممارسات الطائفية، إلا أن وجودها لا يعني عمومها ولا يعني بأي حال من الأحوال أن تكون المرجعية لقرارتنا الكبرى والاستراتيجية التي لن تحكم مصائرنا فقط بل مصائر أحفادنا أيضاً. إن معركة مذهبية في هذا الشرق الذي نبشر به لن ينتصر فيها أحد ولن تكون نتيجتها سوى مزيد من الفرقة والألم والدماء والتشرذم والفاقة، وسنعيش مئة عام أخرى من البؤس لا بيد سايكس بيكو هذه المرة، بل بيدنا، لتكون ذاتنا هي التي تمزق ذاتنا في سيناريو يرسمه أعدائنا والمتربصين بحريتنا المنشودة، سوريا هي المفتاح لتأسيس شرق جديد يتصالح مع التاريخ والذات.