في حياتي لم أكره شيئا قدر كراهتي للظلم ، وأي شيء في دماج لم يكن ظلما ؟ كيف يمكن لأهالي دماج أن يشرحو لأطفالهم كل هذه القسوة ؟ الظلم والقهر هو الحقيقة المتماسكة لإنسان دماج منذ أن اشتدت سواعد الآل . يتحدثون عن التعايش ، يتجدثون عن الفكر والشريعة والدين ، عن السلفية والأنصار ، عن الأمويين وبني العباس ، عن آل البيت وعن الأصحاب
أما أنا فأتحدث عن دهشة الأطفال ، وعن تلعثم آبائهم وهم يجهدون في إجابة الأسئلة عن مشهد الرحيل ، وكيف يفقدون أشياءهم بين الأمتعة المرهقة من وعثاء السفر ، أشياءهم التي يراها الكبار تافهة لاتستحق أن تحجز مكانا في عربات النقل ، أما هم فيرونها كل شيء !! عن حزن يختبئ في التفاصيل التي تحكي قهر الرجال وقد فشلوا في حماية النساء كما نفشل نحن في حمايتنا من التخاذل . عن ذل كان على الجميع أن يبتلعه رغم أنه جاء على شكل مواكب ومحاطا بآلات التصوير التي تنقل شكل الإهانة . كيف يمكن لطفل أن يشفى من تعب الذاكرة ورهق اليوم الذي لن ينسى ؟
يهاجر الناس بسبب الفيضانات والكوارث الطبيعية وانهيارات الصخور ، ثم يعودون بعد أن تهدأ العواصف ، أما أهالي دماج فقد انهارت عليهم كل الكوارث مرة واحدة ، الظلم والخذلان والخوف والحصار والجوع ، الموت والتهجير ، حتى حين هاجرو كانت أيادي الخصم هي من تستقبلهم .
اللجنة المكلفة بترتيب أوضاع نازحي صعدة يقف على رأسها رجل كان منذ قليل يشارك الخصم احتفالات الانتصار بمولد نبي لم نعد قادرين على التعرف على ملامحه . غابت قضية النازحين من أبناء صعدة وحضرت الاحتفالات المنتشية بنخب الانتصار الزائف ، مئات الآلاف من النازحين لم يرهم أحد ، ماتت قضيتهم بصندوق الرجل الذي يحب آل البيت ويحقد على الإنسان .
للظلم درجات ، أقساها أن تظلم في دينك ودارك وأن يكون الخصم هو القاضي والمعطي والمتفضل ، هو من يطردك من دارك ثم يمن عليك بخيمة !!!
ماذا يعني أن يحكم عليك أحدهم أن تهجر دارك ؟ أن ترحل عن الذكريات والطفولة وشخابيطك على الجدران ؟ أن تغادر كرامتك وكبرياءك وأن تلبس الهزيمة أبدا ؟ أن تنظر في وجه فتاتك لآخر مرة ؟ أن تترك زملاءك في الصف ؟ أن تودع قسرا رفاق عملك ؟ وأن يقطف خصمك الورد الذي في بستانك ؟ أن تشطب على رحلة حياتك كما لو أنها كانت ورقة كتبت بالخطأ ؟ ثم حين ترحل ، يمنون عليك أن سياطهم لن تنالك حيث ترحل !!!
هذا يعني شيئا واحدة ، أن هذا التهجير سيصنع قاعدة أخرى ، قاعدة المهجرين الذين استمع العالم لأناتهم وجوعهم وخوفهم دون أن يحرك ساكنا .
أي عار أن تمسي دماج موحشة بلا فوانيس ولا أطفال ولا مواقد ولا صوت أذان ، لا عصافير في انتظار الفجر ، الغربان وحدها هناك ، ستفخخ غدا مركز الحديث وستهتف بالموت كما في كل مرة .
دماج تغادر وقد تركت كل شيء يموت خلفها ، الإنسان والدين والقيم المشتركة ، فهل ستقدر أيضا أن تمسح ذاكرة طفل ؟
كل وجع يهون إلا وجع القهر والفراق يادماج وجع الخذلان في هذا العالم المزيف ، الذي يسمونه "حرا " ، ونحن لا نسمع فيه سوى رسف السلاسل . كيف ننام وهذا العار يملأ الأفق ؟ وهذه الفضيحة تحاصر إنسانيتنا التائهة ؟
يا إلهي : كيف تركتنا دماج في العراء دون أية أردية !!!