أحمد سيف حاشد فور وصول (الأستاذ) إلى المدرسة استدعاني للحضور أمامه .. وقف على نحو استعراضي، و لكنني أحسست أن في داخله مرجل يغتلي .. بدأ يحوم حولي و عصا الخيزران متحفزة لتنهش جلدي الذي يكسوا عظامي المنهكة بصعوبة.. كان يتحفز كضابط شرطة وجد من يبحث عنه بعد أن كد العمر في البحث .. ضابط أعيته الحيلة و خابت الوسيلة في القبض على من يبحث عنه، و عندما وجده أراد أن ينتقم لفشله الذريع و خيبته الكبيرة .. كان يهز الخيزران في وجهي كأنه ظفر بخصم لدود انتظره دهرا، و تحيَّن زمناً لمنازلته و سحقه.. كنت منهكا و نحيلا و خائر القوى .. لا حول لي و لا قوة أمام مجهول ينتظرني لا أدري قدره، و كيف سيكون..!! كنت كلما أرجوه في سرّي و كتماني أن يكون أقل مما هو مُهلك و مميت، فيما (الاستاذ) كان يتبدى لي مكظوما بالغيظ الشديد، و الغل الذي يأكل صاحبه .. كان متحفزا جدا، و لا يدري من أين يبدأ بسحقي.. فكّر برهة، ثم أختار بعناية أربعة من أشد التلاميذ غلظة و قوة، و أمرهم أن يمسكوني و يسقطونني أرضاً و يرفعون قدماي مضمومتين إلى الأعلى و يمنعونني من الحراك.. قلعوني من الأرض كنبتة صغيرة منهكة .. صار رأسي مضغوطا عليه للأسفل، و قدماي مرفوعتين إلى الأعلى .. شعرت أن فارق الكتلة بيننا يكسر المقارنة .. أحسست إنهم يفرطون في استخدام القوة إلى حد لم أكن أتخيله .. إنه إفراط عبثي مغالى و ساحق .. لا مقارنة بين ضآلتي و بين أربعة أعفاط بديت بينهم متلاشيا .. تلاشيت باكتظاظهم المزدحم .. كانوا يفعلوا ما يفعلوه و هم بذروة الانتشاء و برهنة الولاء.. شلوا يداي و حركات جسدي بأيديهم الكثيرة، و ثقلهم الذي أناخ على كاهلي الصغير و المنهك .. وضع بعضهم ركبهم الحجرية على بطني الخاوية و صدري المكظوم و المختنق .. كادوا أن يمنعوني من التنفس، و شعرت إن الهواء الذي أسرقه من زحامهم صعب و قليل .. ما أبخلهم حتى على الهواء الذي أتنفسه..!! كأنهم مرابين يمنحوني الهواء مقسطا و مقترا و ثقيل الضنك.. أحسست بلسعات الخيزران تهوى بشدة على قاع قدماي .. أحسست أن حمم من جهنم قد صبها (الأستاذ) على بطن أقدامي الدامية الأظافر .. إنها ليست عقوبة (الفلكة) المعتادة، و لكنها كانت (فلكة) من جحيم .. تعدَّت شدتها كل معقول، بل و أضعاف ما طال أكثر التلاميذ إهمالا و تقصيرا و غباء في المدرسة .. لقد اسميت ذلك اليوم بعد زمن "يوما في الجحيم".. شاهدت بعد دقائق من انتهاء وليمتهم المرعبة على جسدي المنهك، تورم قدماي، و وجود احتقانات حمراء، و نفطا بيضاء في قاعهما و جوانبهما .. قدماي التي يفترض أن تحملني إلى البيت صرت أنا من يحملها، و كأنني أحمل جبل أثقل من أحد.. كنت أمشي عاثر الخطى .. و أحيانا أسحب جسدي كالكسيح .. أسير عشرين خطوة أو دونها ثم أستريح قليلا لأعاود السير لعشرين أخرى .. كانت رحلتي تلك أشبه برحلة في الجحيم .. كان المتر و الاثنين له معنى في هذا المسير الثقيل .. عشرين بعشرين دواليك، إلى أن وصلت للبيت بعد طلوع الروح.. كنت أظن أن العقاب قد أنتهى عند هذا الحد، و خصوصا أن (الأستاذ) قد أبلغ والدي أنه قد عاقبني بما أستحق و فيه الكفاية، غير أن والدي الذي كنت آمل أن يخفف عنِّي ما أوقعه الأستاذ من عقاب، وجدته أكثر أفراطا بالعقاب من الاستاذ .. بدا حالي و استجارتي بأبي (كالمستجير من الرمضاء بالنار). *** يتبع..