نايف القانص تُعد الصين واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية وأكثرها عددًا على سطح الأرض. وعلى امتداد تاريخها الطويل، تميزت بتحولات ثقافية وفكرية عميقة أسهمت في بناء منظومة حكم وقيم اجتماعية متينة، كان للفلاسفة فيها دور محوري. هؤلاء المفكرون لم يكونوا أنبياء، ولم يدّعوا تلقي وحي من السماء، لكنهم وضعوا أسسًا فلسفية وأخلاقية تحولت بمرور الزمن إلى ما يشبه الديانات، فمارسها الناس شعائر وتبنوها كعقائد. من أبرز هؤلاء كونفوشيوس (كونغ فوزي)، مؤسس الفلسفة الكونفوشيوسية، التي ركّزت على الأخلاق، النظام، احترام العلاقات الاجتماعية، وأهمية العائلة والتعليم. كان كونفوشيوس مصلحًا اجتماعيًا، سعى إلى بناء مجتمع عادل من خلال القيم والسلوك، لا من خلال طقوس دينية أو رسائل سماوية. ورغم ذلك، أصبحت تعاليمه لاحقًا ديانة مدنية، واتخذها الناس منهجًا للحياة الروحية والسلوكية. ثم ظهر لاو تسي (لاو زي)، مؤسس الطاوية، التي تتجلى فلسفتها في كتابه الشهير "داو دي جينغ" (道德经)، وهو نص غني بالمعاني الرمزية والدعوة إلى الانسجام مع الطبيعة، البساطة، واللاعنف. تنظر الطاوية إلى الحياة على أنها تيار يجب أن يتبعه الإنسان لا أن يقاومه، وهي فلسفة تأملية تحولت، بدورها، إلى ديانة واسعة التأثير. كما برز مويتزي (مو زي)، الذي أسس مدرسة "المووية"، ودعا إلى المحبة الشاملة، أي أن يحب الإنسان الجميع بالتساوي، مع رفض الحروب العدوانية وتأكيده على الكفاءة كقيمة مركزية في الحكم والمجتمع. وجاء منسيوس (منغ زي)، بعد قرون من كونفوشيوس، ليطوّر فكره ويؤكد أن الإنسان بطبيعته ميّال إلى الخير، ما يعكس تفاؤله بالنفس البشرية ورفضه لفكرة أن الإنسان شرير بطبعه. أما تشوانغ تسي (زوانغ زي)، فكان من أبرز فلاسفة الطاوية أيضًا، وتميزت كتاباته بالخيال والرمزية، وركز على التحرر من القيود الفكرية والاجتماعية، والدعوة إلى فهم أعمق لمعنى الوجود بعيدًا عن التعقيدات والسلطة. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الفلسفات الصينية، وغيرها في حضارات شرق آسيا، قد تحولت بمرور الوقت إلى ديانات. لكنها لم تنطلق من دعوى تلقي الوحي أو الرسالة السماوية، على عكس الأديان الإبراهيمية التي ظهرت جميعها في منطقة الشرق الأوسط. وهذا يطرح تساؤلاً وجوديًا وفلسفيًا مهمًا: لماذا انحصرت الرسالات السماوية في منطقة واحدة، بينما خلت منها أقدم حضارات العالم؟ هل الإنسان بطبيعته كائن روحي يبحث عن شيء يعبده؟ أم أن ظروف الطبيعة والثقافة هي التي تستدعي ظهور الفكر الديني؟ وهل في داخل كل إنسان ميل فطري نحو الإيمان، حتى إن لم يجد نبيًا أو دينًا، بحث عن نظام أخلاقي أو فلسفي يحاكي الوظيفة التي يؤديها الدين؟ هذه الأسئلة لا تزال محل جدل واسع بين المؤمنين والملحدين واللاأدريين. البعض يرى أن الدين حاجة إنسانية نفسية وروحية لا غنى عنها، بينما يرى آخرون أن الإنسان يصنع منظوماته المعنوية وفق ما يواجهه من ظروف حياتية وثقافية. في النهاية، سواء جاء الدين بوحي سماوي أو بتأمل فلسفي، فإن الإنسان لا يكف عن البحث عن معنى، عن نظام، عن أخلاق، عن طمأنينة... وهذا ما يوحّد البشرية في جوهرها، رغم تباين العصور والمعتقدات. من حائط الكاتب على الفيسبوك