سنان بيرق رأيت وجهه، وقرأت فيه ما لم تقله الشفاه. وجه الطالب محمد البركاني، المتفوّق النابه، الذي ارتدى ملامح الحزن، وابتلع الغصّة، ووقف أمام الكاميرا يُصارع الدموع، لا ليحكي عن إخفاق، بل عن قهرٍ لا يُطاق. شابٌ حفر اسمه في دفتر النبوغ، حصد الدرجة الكاملة في معظم المواد، ولم يترك بابًا للنجاح إلا وطرقه. كان يستعد أن يكون الأول على الجمهورية، وكانت أسرته تجهّز نفسها منذ أسابيع لتلك اللحظة التي طال انتظارها... لكن، يا للأسى، لم يكن بانتظاره الفرح، بل كان بانتظاره اللفظ القاتل: "محروم". كأن الزمن توقف عند تلك الكلمة.. كأن كل تعب الليالي وسهر السنين، دعاء الأم، وصبر الأب، ومثابرة الفتى... سقط دفعة واحدة تحت هذا الحرف المذبوح. هل تتخيلون؟ في كشف النتائج، كُتب أمام اسمه: 100… 100… 100… ثم جاءت الطعنة: "محروم". محروم من ماذا؟ من مادة؟ من فرحة؟ من حقه؟ بل هو محروم من وطنٍ لم يحمه، ومن عدالةٍ صمتت حين وجب أن تنطق. يا سادة، من ينال العلامة الكاملة في الرياضيات والكيمياء والأحياء لا يمكن أن يكون غشاشًا أو مهملًا. من يستحق المركز الأول لا يُجزى بالحرمان. النجاح لا يُسرق... لكنه سُرِق منه، على مرأى ومسمع، دون أن يهتز لأحد جفن. لقد أخبرني أحد جيرانه أن أسرته أعدّت الزينة، وأن قريباته دعين النساء لمتابعة التلفاز يوم إعلان النتائج. "محمد سيكون الأول على الجمهورية"، قالوا بثقة. لكنهم لم يشاهدوا اسمه، بل شاهدوا خيبةً كُبرى، وقهرًا يُقصم الظهر، وغصة علقت في الحناجر ولم تنزل. كان محمد يبكي في بيته، بينما زملاؤه يحتفلون. وكانت أمه تبكي معه، بعدما كانت تُمني النفس بلحظة تكريم ابنها. وكان أبوه، الذي سهر الليالي على راحته، يحبس تنهيدة الموجوع. وكانت قريته كلها في حالة صدمة، بعد أن تحوّلت فرحتهم الجماعية إلى حداد علني. إنها ليست مجرد نتيجة دراسية، إنها نكبة العمر بكل ما تحمله الكلمة من وجع. نكبة حين يُجهز الطالب نفسه ليكون في القمة، فيُرمى إلى القاع بعبارة واحدة: "#محروم". اليوم، محمد لا يسعى إلى تعاطف، بل إلى حق. لا يطلب شفقة، بل تحقيقًا، مراجعة، لجنة نزيهة. يريد فقط أن يُراجع ملفه، أن تُرفع عنه وصمة الحرمان، أن تُعاد له الحياة. أنا لا أعرف محمد البركاني شخصيًا، ولم ألتقه قط، لكني عرفت وجعه من عينيه، من صمته، من عجزه أمام الكاميرا. عرفته من دموع أمه التي انحبست، ومن مرارة أبيه التي لن تُنسى. أكتب اليوم لا كمحامٍ فحسب، بل كإنسان، كأخ، كمواطن يتألم حين يُظلم النابغون في بلاده. أكتب لأن هذه البلاد لا تحتمل أن نخسر المزيد من عقولها النقية، لا تحتمل أن يتحوّل التعليم إلى فخ، والنجاح إلى تهمة، والتفوق إلى عار. أيها القائمون على وزارة التربية والتعليم في العاصمة عدن، افتحوا ملفاتكم، أعيدوا مراجعة ورقة هذا الطالب، أنصفوه قبل أن يتحوّل ظلمه إلى لعنة تلاحق النظام كله. فمحمد لا يُمثل نفسه فقط، بل يُمثّل مئات الطلاب الذين كادوا يتفوقون، ثم أُسقِطوا بلا ذنب. أعيدوا له حقه، وردّوا له الاعتبار، فهذه ليست قضية درجات... بل قضية كرامة، وعدالة، وأمل لا يجب أن يُذبح بهذه القسوة.