عبد الوهاب قطران كانت صنعاء قديمًا تُشبه عروسًا يزينها الخضاب، تتلألأ قمرياتها المنحوتة بالجص، تُطرّز ضوء الشمس بألوان زجاجها الملونة، وتتنفس طيرماناتها العالية نسيم الفجر النديّ. في أزقتها العتيقة، كان العابر يسمع وقع خطاه متناغمًا مع صوت المؤذن من المآذن الرفيعة، أو مع أغنية خجولة تنبعث من دكان بائع الأشرطة القديمة في شارع جمال. المدينة كلها كانت قصيدةً، تُضيء بالحياة والسكينة، تحفظ نظامها وذوقها وأدب ناسها. لكنها اليوم لم تعد صنعاء التي نعرفها. دخلها القادمون من الأدغال والجبال، فاجتاحوا قلبها، ومسخوا ملامحها. هذا يحوّل غرفته المقردعة إلى حظيرة، يدخل معزَه وغنمه لتشاركه وسادته وروائحه، كأنها امتداد لزريبة القرية! وذاك يقيم عرسًا لابنته او ابنه منذ شهر كامل، فاتحًا فلاشته الرديئة على مكبرات الصوت، يغرق الحارة كلها الى اخر الليل بضجيج مواويله وكأن الجيران لا وجود لهم! صنعاء التي كانت مدينة الذوق والحياء، صارت غابة من الفوضى: تسولٌ في كل شارع، ضجيج بلا انقطاع، وجغاصة مبتذلة تسحق روحها. وبدل أن تُهذّب المدينة الريف، ابتلعها الريف؛ بدل أن تُمدِّن، جرى العكس: ترييفٌ مسّخ جمالها وطمس حضارتها. صنعاء التي كانت قمرياتها تضيء كالحلم، وطيرماناتها تعانق السماء، وأزقتها تفوح ببخور البن واللبان، تُسحق اليوم تحت أقدام الطارئين عليها. فمن يعيد إليها صفاءها الضائع؟ ومن ينتشلها من هذا الترييف القاسي قبل أن تستحيل إلى قرية كبيرة بلا ذاكرة ولا قلب؟