حمدي ردمان في شارعٍ من شوارع العاصمة صنعاء، وبين بيوت حي السنينة، كانت هناك رحلة يومية اعتيادية، تكررت مئات المرات. طالبة بريئة تثق بالطريق وبالناس، تستقل الباص لتذهب إلى مدرستها، ويقوم سائق الباص بواجبه الإنساني والأخلاقي في نقلها بأمان. لكن هذا المشهد اليومي البريء كان على موعدٍ مع تحوّلٍ مأساوي، ليصبح مجرد حلقة في سلسلة من الانهيارات التي تضرب نسيج المجتمع في ظل غياب الرادع الأمني. لم تكن الطالبة تعلم أن رحلتها الصباحية ستتحول إلى كابوسٍ مزّق قلبها وقلب أسرتها إلى الأبد. فبدلًا من أن يُوصلها إلى باب المدرسة، انحرف بها السائق عن الطريق، متجهًا إلى شارع الخمسين، متجاهلًا صرخاتها المتلاحقة المرتعبة التي كانت تخترق صمت السيارة: "توقّف! توقّف! إلى أين تذهب بي؟" كانت صرخات استغاثةٍ تُلخّص كل معاني الخوف والضياع، لكنها اصطدمت بقلبٍ من حجر، ونوايا خبيثةٍ حاولت النيل من براءة طفلة. في لحظةٍ تعبّر عن شجاعةٍ نادرة، وبدافع غريزة البقاء، اتخذت الفتاة القرار الأصعب: القفز من الباص المتحرك. لقد فضّلت مواجهة المجهول والمخاطر الجسدية على مواجهة المصير المجهول الذي كان ينتظرها. هرعت بسرعة البرق إلى أحد البيوت القريبة، تلاحقها أنفاس الخوف، لتُلقي بنفسها على أهل البيت طالبة النجاة: "إن صاحب الباص يريد اختطافي!" كانت كلماتها بمثابة صفّارة إنذارٍ لضميرٍ إنساني لم يمت بعد. تمكنت الفتاة من الاتصال بأبيها، ذلك الأب الذي يعمل محاسبًا في إحدى شركات الأدوية، رجل الأرقام والحسابات الدقيقة، الذي لم تكن حساباته لتشمل يومًا أن يصبح حساب الخوف والرعب هو المسيطر على حياته. وصل الخبر إلى الأب كالصاعقة، فتحوّل من رجلٍ هادئٍ إلى إنسانٍ تعصف به عاصفةٌ من الهستيريا والألم. لطم رأسه تعبيرًا عن العجز والغضب، وانطلق بسيارته كالسهم نحو مكان ابنته، لا يهمه شيء في تلك اللحظة سوى أن يضمها إلى صدره ويؤكد أنها بأمان. وصل الأب، التقط ابنته المرتعبة، وشاهد بنفسه القبض على ذلك السائق المجرم الذي سُجن حيث ينتمي. لكن العدالة التي أُنجزت في حق الابنة، كانت قد تأخرت في حق الأب. فالصدمة العنيفة التي عاشها، والخوف المميت الذي تسلل إلى قلبه، أطلقا العنان لغدة الكظر لترفع سكر الدم إلى مستويات قياسية وعنيفة. نُقل الأب إلى مستشفى العلوم والتكنولوجيا نتيجة ارتفاع السكر، ولكن الأوان كان قد فات. لقد فارق الحياة، لا بطلقة رصاص، ولا بجرحٍ نازف، بل بطلقةٍ من الخوف أطلقتها جريمةٌ وحشية، وصدقتها فجوةٌ أمنية واسعة. السؤال الذي يصرخ في وجه المدينة: أين الأمن في صنعاء؟ هذه الجريمة ليست مجرد حادثة فردية معزولة، إنها نموذج صارخ لسؤال الأمن المعلّق في فضاء العاصمة. كيف يجرؤ سائق على اختطاف طفلةٍ في وضح النهار؟ أين الرقابة على وسائل النقل العامة؟ أين وجود رجال الأمن في الشوارع الذين من المفترض أن يكونوا ردعًا لأمثال هؤلاء المجرمين؟ لقد مات أبٌ بريء لأن الخوف قتله. وها هي ابنته الآن، لم تعد فقط ضحية لمحاولة اختطاف، بل أصبحت أيضًا ضحية لموت أبيها الذي لم تتحمل روحه الطيبة هول الصدمة. حالُها منهار، تحمل في قلبها الطفولي جرحًا لن يندمل، وشعورًا بالذنب لا ذنب لها فيه، وحياةً محطمة بسبب جريمةٍ شائنة. ما حدث في السنينة هو جرس إنذارٍ يدق بقوة، إنه نداء استغاثة لكل الضمائر الحيّة، ولكل المسؤولين، بأن الأمن ليس ترفًا، بل هو أساس الحياة. عندما يغيب الأمن، لا يموت الناس بالرصاص فقط، بل يموتون بالخوف، وتموت معهم الثقة، ويموت المجتمع. الراحة في جنّات الخلد لأبٍ دفع حياته ثمنًا لحب ابنته، والعزاء لفتاةٍ ستظل تحمل في عينيها بريق اليوم الذي فقدت فيه براءة طفولتها وأمان أبيها في آنٍ واحد. أما المجرم فقد سُجن، لكن السجن الأكبر هو سجن الضمير، وسجن سؤالٍ لن يجيب عليه أحد: إلى متى سيظل المواطن في صنعاء يدفع ضريبة غياب الأمن بدمه وأعصابه وقلبه؟