محمد اللوزي قال لي أحد الأصدقاء من رواد الفضاء الافتراضي، وهو يعيش في إحدى الدول الخليجية: "لا نستطيع التعليق على ما تكتبونه، فالرقيب الأمني حاضر فينا حتى وهو غائب." هذه العبارة، على بساطتها الظاهرية، تختزل مأزق المثقف العربي المعاصر، وتكشف عن عمق العلاقة بين الخوف والوعي في بنية العقل الجمعي العربي. فحضور "الرقيب" لم يعد حصرًا في مؤسسات السلطة، بل تحول إلى حضور باطني يسكن النفوس ويكبح إرادة التعبير. من المؤسف أن يتحول المثقف، الذي يفترض أن يكون حامل مشعل الحرية، إلى كائنٍ يتوجس من ذاته قبل أن يتوجس من السلطة. هذا الانكماش الذاتي أمام فكرة الحرية يعكس مأساة مزدوجة: مأساة الخوف من الفعل، ومأساة الارتهان للمألوف. فبعض المثقفين، في ظل هيمنة الرقابة والملاحقة، اختاروا التكيّف مع الواقع لا مقاومته، والاحتماء بالشعر واللغة الرمزية كملاذ جمالي من صخب السياسة ومخاطرها. لقد أنتج هذا الوضع نوعًا من الازدواجية الثقافية؛ إذ يمارس المثقف الكتابة بوصفها فعلًا تجميليًا، لا بوصفها موقفًا معرفيًا أو أخلاقيًا. يتقن "الرتيب من الشعري"، ويكتفي باللعب اللفظي والتعبير الرمزي دون أن يقترب من جوهر التحول الاجتماعي أو نقد بنية الاستبداد. وهكذا تغدو القصيدة سجنًا لغويًا يتوارى خلفه وعي خائف، بدل أن تكون فضاءً للتحرر والمساءلة. والأخطر أن هذا الخوف المغلف بثقافة الجمال جعل جيلًا كاملًا من المثقفين العرب يعيش إشكالية "الحداثة الشكلية". فهم ينشغلون بقضايا الإيقاع واللغة وبالتمييز بين التفعيلة والنثر، ويقيمون جدلًا نظريًا طويلًا حول ما بعد الحداثة دون أن يمروا فعلًا بتجربة الحداثة نفسها. فالحداثة، كما تشير التجربة التاريخية، ليست نمطًا أدبيًا أو شكلًا جماليًا فحسب، بل منظومة قيم شاملة تتعلق بالاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة. إنها وعي جديد بالإنسان والعالم والعقل والحرية، ومتى أُفرغت من هذا الجوهر تحولت إلى قشرة لغوية تخفي خواء المضمون. من هنا، يصبح انشغال المثقف العربي بقضايا الشكل دون المضمون، والتغني بما بعد الحداثة في غياب شروطها التاريخية، نوعًا من الهروب من المسؤولية الفكرية. فالنقاش حول جماليات النص لا يمكن أن يعوّض غياب الموقف من قضايا الواقع، ولا أن يبرر الصمت تجاه بنى الاستبداد التي تخنق حرية الكلمة وتفرغ الوعي من مضمونه. إن مأساة المثقف العربي ليست فقط في خضوعه للسلطة السياسية، بل في خضوعه ل"الرقابة الداخلية" التي استبطنتها ذاته، حتى أصبحت جزءًا من جهازه النفسي والثقافي. هذه الرقابة الذاتية أخطر من أي رقابة رسمية، لأنها تُنتج مثقفًا يراقب نفسه قبل أن يراقبه الآخر، ويقمع وعيه بدافع الخوف من العزلة أو العقاب أو حتى من المختلفين عنه. في المحصلة، يمكن القول إن ظاهرة الخوف من الحرية لدى المثقف العربي وتحديدا الخليجي تمثل أحد أبرز مظاهر الاستبداد الثقافي الذي يكرس تبعية الوعي للسلطة. ومادام المثقف عاجزًا عن التحرر من هذا الخوف، فلن يكون قادرًا على المساهمة في بناء مشروع نهضوي حقيقي. فالحرية ليست ترفًا فكريًا، بل شرطًا أساسيًا للوعي، وأساسًا لكل فعل حضاري.