ولي العهد السعودي يصدر أمرا بتعيين "الشيهانة بنت صالح العزاز" في هذا المنصب بعد إعفائها من أمانة مجلس الوزراء    هيو جيو كيم تتوج بلقب الفردي وكانغ تظفر بكأس الفرق في سلسلة فرق أرامكو للجولف    رابطة أبوظبي لمحترفي الجوجيتسو توقع مذكرة تفاهم مع واحدة من أكبر الشبكات الإعلامية في الصين    رئيس مجلس القيادة يغادر عدن ومعه اثنين من الأعضاء    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    وصول شحنة وقود لكهرباء عدن.. وتقليص ساعات الانطفاء    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    الدور الخبيث والحقير الذي يقوم به رشاد العليمي ضد الجنوب    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    شاهد:الحوثيون يرقصون على أنقاض دمت: جريمةٌ لا تُغتفر    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    صراع على الحياة: النائب احمد حاشد يواجه الحوثيين في معركة من أجل الحرية    "امتحانات تحت سيف الحرمان": أهالي المخا يطالبون بتوفير الكهرباء لطلابهم    "جريمة إلكترونية تهزّ صنعاء:"الحوثيون يسرقون هوية صحفي يمني بمساعدة شركة اتصالات!"    البريمييرليغ: السيتي يستعيد الصدارة من ارسنال    زلزال كروي: مبابي يعتزم الانتقال للدوري السعودي!    الوكيل مفتاح يتفقد نقطة الفلج ويؤكد أن كل الطرق من جانب مارب مفتوحة    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    ارتفاع طفيف لمعدل البطالة في بريطانيا خلال الربع الأول من العام الجاري    أمين عام الإصلاح يبحث مع سفير الصين جهود إحلال السلام ودعم الحكومة    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    المنامة تحتضن قمة عربية    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    بريطانيا تؤكد دخول مئات السفن إلى موانئ الحوثيين دون تفتيش أممي خلال الأشهر الماضية مميز    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    مجازر دموية لا تتوقف وحصيلة شهداء قطاع غزة تتجاوز ال35 ألفا    الولايات المتحدة: هناك أدلة كثيرة على أن إيران توفر أسلحة متقدمة للمليشيات الحوثية    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ليفربول يسقط في فخ التعادل امام استون فيلا    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاربات لموقف المثقفين العرب من الحداثة
نشر في الجمهورية يوم 23 - 02 - 2015

لعل مصطلح الحداثة يشكل أحد أبرز المصطلحات الشائكة والمعقدة والغامضة في عصرنا الراهن، ويجد المرء نفسه أمام إشكال كبير لفك رموزه والغوص في معانيه وسبر أغواره مما يجعل مضامينه شديدة التفلت وصعبة المنال، حتى إننا لنجد أن المثقفين أنفسهم، برغم كثرة تداولهم لهذا المصطلح الجديد، يستعملونه في غير محله. وقد يريدون باستعماله أمرًا لا يكون بالضرورة محل إجماع الجميع.. وتشكل هذه المقالة محاولة لإلقاء المزيد من الضوء على هذا المصطلح المعقد وإبراز المجالات والحقول والمضامين التي قد يرمز إليها، وكذلك إبراز مواقف المثقفين إزاء هذه المضامين. وفي نفس السياق نروم الخروج أيضاً بنظرة أولية حول تعامل الفكر الإسلامي مع إشكالية الحداثة.
قضية المصطلح والانتماء الحضاري
لقد نشأت عندنا في البلدان العربية مصطلحات كثيرة اختلف حولها مثقفونا من مثل الأصالة، المعاصرة، التراث، السلفية، وغيرها من المصطلحات التي أدت إلى حوار وجدال أسال مدادًا كثيرًا من أجل تبيان مضامينها وحمولتها الفكرية والمذهبية. غير أن هذه المصطلحات تبقى وليدة البيئة الداخلية لمجتمعاتنا، بيد أن في المقابل تهاجمنا بوتيرة متسارعة مصطلحات أخرى من صنف آخر تترعرع في الغرب وتلقي بظلالها علينا، وما نكاد نتبين حمولتها الفكرية حتى نجدها قد سرت في أحاديثنا وخطاباتنا وفي إعلامنا سريان النار في الهشيم.. ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال لا الحصر، العلمانية – العولمة – الحداثة – التحديث – الديموقراطية – الوجودية – الإيديولوجيا – التيوقراطية – الميتافيزيقا.. إلخ، والقائمة طويلة جدًا وتظل مفتوحة على مصراعيها .
وقد حذر الحق سبحانه وتعالى المؤمنين من استعمال بعض الألفاظ وعوضهم عنها ألفاظًا أخرى تنتمي إلى منظومتهم الثقافية والحضارية مثل ما جاء في الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} . بل إن القرآن الكريم جاء بمصطلحات جديدة تؤسس لمنظومة مصطلحية متكاملة، وفي نفس السياق فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فبدل بمصطلحات جاهلية مصطلحات جديدة. لقد تنبه الغرب إلى حرب المصطلحات في وقت مبكر حيث دأب على تغيير وتحريف المصطلحات وحتى أسماء أعلامنا تحايلاً منه على التاريخ ومحاولة منه لتحريف الذاكرة الجماعية وتزييفها.
فأصبح النبي محمد (Mohoma) والخوارزمي أصبح (Algorithme) وأصبح ابن سينا (Avicenne ) وأصبح ابن رشد (Averros). إنها حقًا أسماء غريبة ومقصودة. وحتى مصطلح (الأصولية والأصوليون) الذي يشرف أصحابه أصبح يحمل معنى الإرهاب والعنف، وقس على ذلك مصطلح الجهاد. ومما يؤسف له أن دوائر المثقفين ووسائل الإعلام الفاقدة للحس الحضاري والمناعة الثقافية تروج هذه المصطلحات والمفاهيم عن قصد أو عن غير قصد عوض الحذر والتمحيص. وفي هذا الصدد يقول محمد عمارة “فالباحث والقارئ الذي يريد معرفة مضمون مصطلح من المصطلحات، فيمد يده إلى القاموس، باحثًا عن هذا المضمون، إنما يزرع في عقله ووجدانه بذرة فكرية تنمو، فتلون مساحة من عقله ووجدانه بالصبغة الحضارية التي حكمت لون ومذهب ومضامين مصطلحات هذا القاموس” .
إذاً لابد في البداية من التحذير من خطورة التعامل مع المصطلحات وخصوصاً مع تلك التي نبتت في تربة غير تربتنا لأنها بكل بساطة تكون حبلى بمضامين ومفاهيم وقيم غير قيمنا. وفي هذا المجال يقول محسن عبدالحميد “إن المصطلحات التي نواجهها اليوم تختلف اختلافاً كبيراً عن المصطلحات التي واجهها أسلافنا؛ لأن المصطلحات في عصرنا ليست ألفاظاً لغوية وأوصافاً لعلم من الأعلام؛ وإنما هي مصطلحات تكمن وراءها منظومة حضارية تختلف في مقدماتها ونتائجها عن منظومتنا الحضارية ونمطها الاجتماعي” . ويذهب المهدي المنجرة أبعد من ذلك حينما يقول “هناك في فرنسا من يقول بأن (الحروب القادمة ستكون من طبيعة سيميائية. إن فرض المفاهيم واللغة وتحدياتها هي بكل تأكيد الوسيلة الأكثر فعالية لبسط السيطرة على العالم. لذا يجب تصور آليات للدفاع الذاتي لحماية النفس من هذه الحملات السيميائية) .
وإذا رجعنا إلى القاموس المحيط للفيروز أبادي بخصوص مادة (حدث) فإنها تشير إلى: حدث، حدوثاً وحداثة، نقيض قدم، وحدثان الأمر بالكسر، أوله وابتداؤه، كحداثته. وحدث من الدهر، نوبه كحوادثه وأحداثه. والأحداث، أمطار أول السنة. ورجل حدث السن وحديثها، بين الحداثة والحدوثة، فتي. والحديث، الجديد والخبر .
الحداثة الفلسفية
إننا كثيراً ما نسمع مثقفينا يدعون إلى الحداثة ويروجون لها من أجل الخروج من التخلف الذي نعاني منه منذ قرون عديدة. فلا مناص لنا إذًا من الدخول إلى الحداثة. فهذا يدعو إلى اعتماد نظام سياسي حداثي، وذلك يدعو إلى منظومة تربوية تعليمية حداثية. وآخر يدعو إلى نشر الكتب الحداثية. فما مفهوم الحداثة التي يبشر بها هؤلاء القوم؟
لقد اختلف الباحثون كثيراً في تحديد الإرهاصات الأولية للحداثة. فبعضهم يربطها بظهور عصر فلسفة “الأنوار” في أوروبا الغربية في منتصف القرن الثامن عشر. ومنهم من يرجع البدايات الأولى إلى اختراع آلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد جوتنبر حيث بدأ يحدث تغيير هائل في الذاكرة الإنسانية وانتشار الكتابة تعويضاً عن التراث الشفوي. ومنهم من يرجع البدايات الأولى إلى الاحتكاك الذي وقع بين الأوربيين وفكر بعض العلماء المسلمين أمثال ابن الهيثم وابن رشد وابن سينا وابن خلدون والشاطبي وغيرهم حيث استفاد الأوربيون من علومهم وطبيعة الفكر المنطقي والتجريبي.
وبعض الباحثين يتحدثون عن موجات الحداثة. فنجد ليو ستراوس يتحدث عن الموجة الأولى التي بدأت مع ديوان الشاعر الألماني غوت (فاوست)، والموجة الثانية للحداثة بدأت مع روسو، والموجة الثالثة بدأت مع الفيلسوف الألماني نيتشه . أما ألفين توفلير فيعتبر أن الموجة الأولى تتعلق بالثورة الزراعية التي استغرقت آلاف السنين، بينما الموجة الثانية التي تتعلق بالثورة الصناعية فقد استغرقت ثلاثمائة سنة، والموجة الثالثة تتعلق بمصادر الطاقة المتنوعة والمتجددة . أما داريوش شيغان فيتحدث عن الصدمات الثلاث، فالصدمة الأولى حسب فرويد كانت صدمة كوسمولوجية، أي تدمير الوهم النرجسي للإنسان. والصدمة الثانية كانت صناعية وأدت إلى تعميم ثقافة جماهيرية وسيادة الإيديولوجيات الكبرى، وأما الصدمة الثالثة فتتعلق بالسياحة الفضائية والبيوتكنولوجيا والإعلاميات، والصدمة الرابعة تتعلق بالصدمة الإعلامية التي بدأت مع نهاية القرن العشرين .
خصائص الحداثة الغربية
كيفما كانت هذه التقسيمات أو التحقيب الزمني فإن الحداثة الغربية تتميز بسمات وخصائص عديدة ومتنوعة لا تكاد تُحصى؛ لأنها تطول جميع مناحي النشاط الإنساني سواء تعلق الأمر بالجانب الثقافي والسلوكي، أو منظومة القيم، أو الجانب العلمي والتقني، أو الجانب الاقتصادي والسياسي والإداري، وحتى في مجال الفن والعمارة. وإذا حاولنا جرد هذه السمات والخصائص فقد نجد نقطًا تشكل محل اتفاق الباحثين، بينما هناك نقط أخرى لا تكون بالضرورة محل اتفاق. ونلخص السمات العامة في الخصائص التالية:
إن الحداثة اتخذت نظرة جديدة إلى المعرفة والطبيعة والعقل والزمن والإنسان. فالمعرفة انتقلت تدريجيًا من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية، ولم تعد الطبيعة في إطار النزعة الحداثية، ذلك المكان ذو الطابع السحري والإحيائي المفعم بالتفاعلات العضوية المحملة بالأسرار والألغاز، ولكن صارت كمًا هندسيًا قابلاً للقياس وخاضعًا لقوانين الرياضيات . وأما الزمن فيمكن أن نلخص المنظور الحداثي له في عبارة لداريوش شيغان “هذه الحركة هي نفي لكل محتوى رمزي وأخروي للزمن، وهي اختزال الزمن في حركة مستقيمة وكمية ليست نهايتها في رجعة المسيح ولا في العود الأبدي، بل هي تقدم خطي لا محدود في الزمان” ، وأصبح كل جديد مقدساً عوض تقديس الماضي. ولعل من أبرز سمات الحداثة إعطاءها للعقل مركزية (Logocentrisme) مما أعطى مشتقات أخرى مثل العقلنة والعقلانية (Rationalisation, Rationalite ) ووسط كل هذه المفاهيم أصبح الإنسان في النزعة الحداثية (Modernisme) قطب الرحى وعليه مدار الأمر كله يصنع إرادته وحريته ويطوع الطبيعة وهو الفاعل والمسؤول.
وفي المجال الاقتصادي فقد انتشرت الصناعات المتنوعة والابتكار التكنولوجي وأعطت أهمية قصوى لارتفاع درجة الإنتاج كمًا وكيفًا، وفي المجال السياسي والاجتماعي شهدت هذه المرحلة التعامل بالقوانين الوضعية ومشاركة فئات أوسع من الجماهير وأصبحت الشرعية السياسية تؤخذ من الشعوب والتعاقد الاجتماعي، وأما التركيب الاجتماعي فقد صار غير معتمد على العائلة والقبيلة والطائفة، وأعطيت للمرأة مشاركة أوسع، والأسرة أصبحت نووية. وأصبح للشعوب الحرية في النقد وفي التفكير والتعبير مع التحرر من كل القيود، وأطلق العنان للمغامرة والاستطلاع والإبداع بما في ذلك مجال الفن .
ويرى البعض أن من بين خصائص الحداثة:
- القطيعة مع الماضي.
- الانسلاخ عن الدين والمقدس وفصله عن كل ماهو دنيوي.
- الانتقال من الماهيات الروحية إلى الغرائز البدائية مع التركيز على الجسد.
المثقفون العرب والحداثة:
يقسم م.أ. العالم التيارات الحداثية في الفكر العربي إلى أربعة تيارات:
1 – تيار الحداثة وهو تيار ذو استبداد سلطوي سياسي يحاول المزج بين الليبرالية التحديثية الأوروبية والإبقاء على الأبنية الاجتماعية والاقتصادية والقيمية الماضية.
2 – تيار الحداثة الدينية يحاول أن يوفق بين التراث والعصر مع السعي إلى التميز عن الغرب.
3 – الحداثة القومية وهي أيضاً حداثة توفيقية ولكن أبرز مطالبها الوحدة القومية العربية.
4 – وأخيرًا الحداثة الثقافية المرتبطة أساساً بالحضارة العصرية الغربية وقيمها والتماهي معها تماهيًا مطلقًا . لعل من أبرز المنتمين إلى هذا التيار الأخير سلامة موسى وفرح أنطوان وأدونيس وأركون وفؤاد زكريا وكمال عبداللطيف وعبدالله العروي وغيرهم. يقول هذا الأخير في كتابه مفهوم العقل “لا يستطيع أحد أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية، موضوعية (...) لابد له قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة، وأن يقدم عليها” .
ويقول أيضاً في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة “قلت إن أوروبا الغربية انتهجت منذ أربعة قرون، منطقًا في الفكر والسلوك ثم فرضته منذ القرن الماضي على العالم كله، ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنهجه بدورها فتحيا، أو أن ترفضه فتفنى..”. وفي نفس السياق يقول كمال عبداللطيف “فهل يعقل بعد معارك الحداثة المتواصلة في العالم العربي، منذ نهاية القرن الماضي، أن نعود إلى عتبة المعرفي الديني، فنبني عليها قواعد السياسة وأصول الفلسفة السياسية المدنية” .
إن هذه النصوص ماهي إلا غيض من فيض، وإلا فإننا نجد نفس النهج وإن تفاوتت درجة التبعية الفكرية للغرب عند باقي فصائل المثقفين من أمثال أدونيس في الثابت والمتحول، وعلي أومليل، وياسين الحافظ وحسن صعب، وزكي نجيب محمود، ونديم البيطار، ومحمد عابد الجابري، واللائحة طويلة. وهذه النصوص التي أشرنا إليها تدل على أن الغرب نجح في إقناع عدد كبير من المثقفين العرب بكافة فصائلهم (الاشتراكية والقومية والليبرالية) بطروحاته. فبعد مرحلة بداية انبهار المثقفين العرب بالغرب في عصر الأطروحات النهضوية العربية أصبح جزء من هؤلاء يتماهى مع أطروحاته ومستلبًا بشكل كامل. من العجيب أن نلاحظ أن هؤلاء المثقفين المتغربين لم يعوا دروس التاريخ. فرغم تهافت الطروحات الحداثية التي اتبعها كثير من الدول العربية سواء كانت علمانية أو قومية أو اشتراكية لم تنفع الشعوب العربية وظلت هذه الأخيرة ترزح تحت التخلف والتبعية. ولم يقع هذا التقدم الذي كانت تبشر به هذه السلطات وسدنتها من المثقفين . بعض هؤلاء المثقفين يحاولون التوفيق بين المقتضيات الإيجابية للحداثة الغربية ومعطيات الحضارة والتراث الإسلاميين. فيرى محمد عابد الجابري ومحمد أركون على سبيل المثال أن آثار ابن خلدون وابن رشد والشاطبي واضحة في ظهور الحداثة في أوروبا، وتكون بذلك لها التأثير البليغ في الحداثة الغربية . بيد أن ثمة جهودًا لمثقفين آخرين لتتبع علامات ومقومات الحداثة في الإسلام جملة وتفصيلاً كما هو الشأن بالنسبة لحسن حنفي. فالمقومات الإيجابية للحداثة (أي المنظور للطبيعة والعقل والإنسان والمجتمع والزمن) موجودة كلها في الإسلام.
فهو يرى أن الطبيعة هي مقدمة لإثبات وجود الله عند المتكلمين، فلا يعرف الله إلا بعد معرفة الطبيعة. وأن القرآن يصور الطبيعة والإنسان سيدها. والإنسان يشكل أحد المحاور الرئيسية في القرآن الكريم مع الطبيعة. كما أن الشعوب الإسلامية كانت نموذجًا للتقدم والعناية بشؤون الدنيا باسم الدين وأن العمل له قيمة خاصة في الإسلام. ويقول «والدعوة إلى إعمال العقل في القرآن يعلمها الجميع.. ومشتقات العقل ذكرت 49 مرة في القرآن.. وقد أكد ابن تيمية موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول” .
ويعتبر أن الإسلام ركز على المجتمع، فالمسلمون أمة واحدة، والملكية وظيفة اجتماعية للإنسان حق التصرف وليس له حق الاكتناز والاحتكار، وإن حدث فإن للحاكم حق التأميم والمصادرة لصالح بيت المال. أما التاريخ فإنه واضح للعيان وهو عبرة وموعظة حتى يتحول التاريخ إلى بعد شعوري عند المسلمين، ويتكون لديهم الوعي التاريخي اللازم لوعي الحضارة والتخطيط للمستقبل . لكن الذي حدث حسب تعبير حسن حنفي “إن التحدي أمام الإسلام الآن ليس في عدم وجود مقومات التحديث فيه، ولكن في غيابها عن وجداننا القومي منذ هزائمنا الأخيرة في عصر التدهور “الانهيار” منذ سقوط الأندلس وعصر ابن خلدون حتى الآن..” .
ودائمًا في إطار الفكر الإسلامي الذي يتعاطى مع إشكالية الحداثة بكثير من التنوع الذي يصل إلى حد الاختلاف أحيانًا فإن البعض يرى أن لفظ الحداثة لفظ مضلل، وهو لفظ دخيل على منظومتنا المصطلحية والفكرية، ولابد أن يستعاض به مصطلحًا آخر يعبر بشكل أفضل عن قيمنا الحضارية. ولا يوجد في هذا المجال مصطلح أفضل من التجديد والاجتهاد. يقول زكي الميلاد “لقد وجدت أن المفهوم الذي يقارب مفهوم التقدم في التجربة الإسلامية هو مفهوم العمران” . وأما لفظ التجديد فيحمل دلالة معينة، ولا يمكن أن يدل على رفض القديم، كما يفهم من مفهوم الحداثة الغربية، لأن التجديد يحمل في طياته معنى الجديد، ويعني أيضاً نوعًا من ترميم البناء القديم وتحسينه وتطويره، ولا يمكن لمصطلح التجديد أن يعني إطلاقًا القطيعة مع الماضي. فلا يتصور في الحضارة الإسلامية أن يوجد حاضر منقطع ومنبت عن الماضي.
لقد رأينا من خلال استعراضنا لخصائص الحداثة الغربية وآراء المثقفين إزاءها تنوعًا كبيرًا قد يصل إلى حد التضارب. وكيفما كان الأمر، فبعض السمات المذكورة لا يمكن أن يتبناها المجتمع الذي يقيم أسسه على الاستمرارية والانتماء للحضارة الإسلامية. أضف إلى ذلك الانتقادات الكثيرة واللاذعة التي أصبحت تبرز هنا وهناك حتى في المجتمعات الغربية نفسها. فالحداثة الغربية كان لها ضحايا كثر سواء في الغرب أو في دول العالم الثالث. مما دشن مرحلة أخرى أو طريقة أخرى في التفكير أطلق عليها ما بعد – الحداثة (Modernisme Post).
ولعل الجدال الذي يدور حول مفهوم ما بعد – الحداثة أفرز طرفين متناقضين: من جهة طرف ينتصر للحداثة واستمراريتها ويقول بفكرة أن ما بعد – الحداثة ماهي إلا مرحلة من الحداثة في ثوب جديد فهي حداثة تجدد وتقوم نفسها وأبرز من ينتمون لهذا التيار هو Jurgen Habermas23 الذي يعتبر أن الحداثة مشروع غير مكتمل (La modrnite: un projet inacheve) بيد أن في الطرف الآخر الذي من أقطابه الفيلسوف الفرنسي Jean-Frrancoois Lotaaaard24فإننا نراه يؤكد على أن الحداثة مشروع متجاوز. فحسب هذا الفريق الأخير أن وعود فلسفة عصر التنوير فقدت معناها، ولم يعد هناك مجال للإيمان بالمحكيات الكبرى (meta-recits) التي تفسر التاريخ والعالم بشكل أحادي وكوني وشمولي متعسف. بل إن أحد أنصار الفرقة الثانية يؤكد أن هذه الطريقة في التفكير تنطلق من كون “الحداثة تجسد نموذجاً نخبويًا انطلاقاً من حكاية كبرى تؤدي إلى الثقافة الفردانية والتوجه الاقتصادي الرأسمالي ولا تعترف باهتمامات وطموحات الشعوب الأخرى ((أي شعوب العالم الثالث)) مما حرمها من كل أشكال القوة .. ونجد أيضًا Bill readinnggs أحد الما بعد – حداثيين يرفض مقولة نهاية التاريخ التي يدافع عنها فوكوياما والهيجليون الآخرون ويحث على إعادة التفكير في التاريخ (repenser I'histtorie) بشكل أكثر عدالة وأكثر إنسانية .
وأخيرًا فإننا نتفق مع منير شفيق حينما استعرض في كتابه (في الحداثة والخطاب الحداثي) أوجها كثيرة للحداثة الغربية وبعدما نعت المثقفين العرب الذي يدعون إلى الحداثة ويروجون لها بأنهم يفتقرون إلى العلمية والمنهج السليم في تعاملهم مع إشكالية الحداثة، ولا يميزون فيها بين الغث والسمين. فهو يقول: “يتسم أغلب الفكر الذي يدعو إلى الحداثة في بلادنا، بنظرة إلى الغرب ترى فيه النموذج الإنساني الأرقى. وبقدر ما نشحذ سكاكين النقد لمجتمعاتنا، فإن نظرة الانبهار والإعجاب هي التي تحل، حتى ولو كان ذلك ضد مصلحة أمتنا، وتتم عملية تبرير المظالم والجرائم التي تحصل بالجملة وعلى مدى العالم . ونحن مع المنهج الصحيح الذي تقرره الآية الكريمة {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.