يتابعها تحلق الهواء بطيئة إلى الخارج ، تهبط على الأرضية الممزوجة بالطين والرمل خلف المرمى ، رطبة بشكل يليق بتلك الليلة الممطرة الخفيفة في كولن ، النظر إلى قرار الحكم ، هل هي فرصة جديدة؟ أم هي ضربة مرمى للسوفييت؟ هي ربما بداية الشعور بالخسارة ، يتابع رود خولييت واضعاً يده على رأسه من الذهول والندم وخيبة الأمل، يتأمل بقعة الطين التي طبعتها الكرة على عارضة داساييف قبل أن تتجه إلى الخارج ، رينوس ميخليز يبدو كنفس الأب الذي كان ينهره كلما رغب في الإنسحاب من الملعب في سنوات الصبا في أوترخت ، الدخول بصفر والخروج بصفر ، ولكنه بالنسبة لماركو فان باستن ليس صفراً كاملاً ، للمرة الأولى ذلك الموسم لا يصرخ كاحله بعد اللعب لدقائق قليلة ، ماركو بداخله يبدو مختلفاً ، بعد دخوله خلال آخر ربع ساعة بديلاً لجيرالد فينينبرج. اللاعب صاحب الرقم 12 يتجه لغرفة خلع الملابس في حالة صمت، يتقاسمها مع رفاقه بعد الخسارة أمام الاتحاد السوفييتي في أولى مباريات يورو 88 ، يشعر بطبيعة الجبل الذي يتوجب على الهولنديين تسلقه ، في أول بطولة كبرى يلعب فيها البرتقالي منذ 1980 ، يمكن للمهاجم الشاب في ميلان أن يلحظ رغبة ميخيلز في الحصول على غرفة صامتة لبضعة دقائق ، فالخسارة في مجموعة لفرق يدربها فاليري لوبانوفسكي وجاكي تشارلتون وبوبي روبسون يبدو كإظهار قليل من الخجل، في غرفة شطرنج تحوي بين جدرانها كاسباروف وكاربوف وبوبي فيشر. العزاء الوحيد لفان باستن ورفاقه أن الخسارة جاءت على يد أحد المرشحين الأساسيين لنيل اللقب في ميونيخ بعد أسبوعين ، أشبال لوبانوفسكي الذين أبهروا الجميع في مونديال المكسيك قبل عامين ، وأخرجوا حاملي اللقب من المنتخب الفرنسي في التصفيات ، ولكن البقاء في أجواء ألمانيا التي تستضيف البطولة للمرة الأولى في تاريخها يتوقف الآن على قهر الإنجليز في مواجهة "عض الأصابع" ، خاصة بعد الخسارة التاريخية لرفاق جاري لينكر أمام الغريم الجمهوري الإيرلندي في أول مشاركة له على الإطلاق ، ألمانيا التي كانت شاهداً على كل العسل وكل الألم في 74 ، "الجنرال" كان عليه وضع الرهان الأخير على مشاركة ماركو كأساسي أمام إنجلترا في دورسلدورف. 44 دقيقة من الشد والجذب انتهت بتوغل من رود خولييت من الجبهة اليسرى إلى فان باستن الذي كان تحت ضغط من تيري بوتشر، إلا أن فان باستن قدم نفسه للعالم في مثل هذه الدقيقة ، مستلماً الكرة وظهره للمرمى قبل أن يتجاوز بوتشر في مساحة نصف متر ، ثم واضعاً الكرة على يسار الحارس بيتر شيلتون ، أربع مقطوعات سهلة في ثلاث ثواني ألهمت مجموعة خولييت وريكاد وفان تيخلين والأخوين كومان لتقديم شوط ثانٍ رائع ، على الرغم من التعادل الإنجليزي في الدقيقة 53 من برايان روبسون ، فتمريرة سحرية من خولييت لفان باستن في الدقيقة 71 وضعت الأخير في مواجهة متجددة مع شيلتون الذي خسر للمرة الثانية تلك المواجهة ، قبل أن يخسرها مرة ثالثة من نفس المهاجم الشاب بعد أربع دقائق من تسديدة مباشرة لركنية نفذها كومان ، هولندا تنتزع أول ثلاث نقاط لها في البطولة ، ولكن الأهم أنها استعادت فتاها صاحب الحذاء الذهبي عام 87 ، ولكنه كان حذاءاً ذهبياً بدون كاحل لأشهر طويلة حتى الوصول لألمانيا. من أجل الصعود لأول نصف نهائي لهم منذ 12 عاماً ، كان على الهولنديين الفوز على المنتخب الإيرلندي مفاجأة البطولة الأولى ، وحده فينينبرج كان قادراً على الإبقاء على حظوظ بلاده ، بإخراج كرة من على خط مرماه نتاج ضربة رأس رائعة في الشوط الأول من المدافع الإيرلندي بول ماكجراث ، وفي الوقت الذي كان أبناء جاكي تشارلتون على بعد ثماني دقائق من بلوغ المجد ، جاء وقت الألعاب الأكروباتية مع تسديدة غير متقنة من كومان ارتفعت على الأرض على نحو مباغت، لتجد رأس زميله فيلم كيفت الذي لعبها وظهره للمرمى ، لتتخذ مساراً لولبياً خدع الحارس الإيرلندي بات بونر ، في أربع ثواني هبطت على "الخضر" مثل البيانو الذي سقط من الدور العشرين ، بيانو أتاح للهولنديين الصعود خلف السوفييت إلى نصف النهائي ، بعد أن أنزل لوبانوفسكي خسارة ثلاثية بالإنجليز في آخر مباريات المجموعة ، جعلت من فريقه مرشحاً أساسياً للفوز باللقب بفضل مجموعة إيجور بيلانوف وبرواتسوف وزفاروف وخيدياتولين وألينياكوف وميخائيلتشينكو وراتس، والتي وضعت نفسها كأبرز منتخبات القارة العجوز في منتصف الثمانينات. كان رينوس ميخليز يعلم أنه سيلاقي فرانس بيكينباور مجدداً بعد نهائي 74 الشهير ، هذه المرة ليس كلاعب ولكن كمدير فني لمنتخب بلاده الألماني ، الذي خاض دورا أول بلا منغصات سوى تعادل إيجابي مثير مع إيطاليا في المباراة الإفتتاحية، تبعه بفوز مكرر بهدفين على الدنمارك وإسبانيا ، منتخب ألماني أكثر نضجاً من تجربة مونديال المكسيك بدور محوري أكبر لماتيوس في وسط الملعب ، ومعه أولاف تون والثعلب فولفجانج رولف وفي الأمام رودي فولر ومعه اكتشاف شتوتجارت الشاب يورجن كلينسمان. لم تعرف البطولة شوطا أول بهذا الحذر مثل الذي عرفته تلك المواجهة بين الجارين اللدودين في هامبورج ، لم يكسرها في الشوط الثاني سوى سقوط متقن داخل الصندوق الهولندي من يورجن كلينسمان، تحمل عاتقه فرانك ريكارد في الدقيقة 55 ، ترجمه ماتيوس إلى هدف من ركلة جزاء في شباك الحارس فان بروكلين ، ووسط كل أشباح الخسائر المتتالية أمام الألمان كان الإنقاذ متمثلاً في قرار جريء من الحكم الروماني إيوان إجنا، في احتساب ركلة جزاء هولندية في الدقيقة 74 بعد عرقلة يورجن كولر لفان باستن ، لينجح رونالد كومان في معادلة النتيجة ، ومن هجمة بدأها كومان إلى فوترز، ومنها مثالية أفقية لفان باستن، نجح الأخير في تحويل الكرة إلى الشباك الألمانية في صاعقة حقيقية ، بعد هروبه من مراقبة كولر الميللمترية طوال اللقاء ، ليحجز الهولنديون مقعداً في النهائي، ولا مانع من الثأر لخسائر متوالية على يد ألمانيا استمرت منذ منتصف الخمسينات. على الجانب الآخر، رد لوبانوفسكي على خسارة منتخبه ودياً على يد الطليان، برباعية قبل البطولة بفوز صريح بهدفين في شتوتجارت على مجموعة فيتشيني الشابة ، والتي كانت تراهن على أسماء فياللي ومانشيني ودي نابولي وفتي نابغة يدعى باولو مالديني، إضافة إلى ثلاثي الميلان فرانكو باريزي وكارلو أنشيلوتي وروبرتو دونادوني ، إلا ان تلك الكتيبة لم تكن كافية لمنع هدفي الشوط الثاني من جانب ليتوفيتشنكو وبروتاسوف خلال أقل من خمس دقائق ، ليحجز السوفييت أول مقعد في نهائي تلك البطولة منذ عام 1972 ، وهذه المرة أمام منافس قهروه قبل أسبوعين فقط. احتفالات صاخبة في أمستردام وضواحيها ، حالة من التفاؤل التام تسود الأجواء ، ولكن رينوس ميخيليز يشعر بالملل من الملعب الأولميمبي في ميونيخ ، ذكرى نهائي 74 تزوره من وقت لآخر ، ثلاث سنوات من الإحباط عندما كان مدرباً لكولن في كل زيارة للبايرن ، في نفس الوقت إخفاقات عقد الثمانينات الهولندي جعلت مستقبل ذلك الجيل على المحك إزاء تحقيق أول لقب كبير لمنتخبهم ، كل هذه الهواجس تجسدت في كرة خطيرة لبلانويف أنقذها فان بروكلين في منتصف الشوط ، تبعه ليفتشنكو من تسديدة أخرى في يد حارس أيندهوفن الفائز بدوري أبطال أوروبا ذلك العام. مع اكتمال نصف الساعة يحصل الهولنديون على ركلة ركنية من إيروين كومان، الذي يحول الكرة ماكرة مستغلاً مصيدة التسلل التي كان ينوي السوفييت تنفيذها، لتجد رأس فان باستن داخل الصندوق، والذي يمررها بدوره إلى رود خولييت الخالي من الرقابة تماماً ، الأخير يضعها برأسه صاروخية في سقف مرمى رينات داساييف ، المنتخب البرتقالي ينهي شوطه الأول متقدماً بهدف ، سيناريو لم يعتده من قبل طوال تاريخه. الدقيقة 53 هجمة مرتدة قادها أرنولد موهرين في عامه السابع والثلاثين ، أحد أبناء رينوس ميخيليز في جيل كرويف ، عرف عقدين من المرارات المتوالية ، يلمح فان باستن يرافقه مراقبه خيدياتولين ، يرفع له كرة مجنونة بلا هدف ، الفتى الذي كان والده ينهره بسبب عدم قدرته على الهروب من الرقابة الصارمة التي كانت تفرض عليه صبياً، قدم واحداً من أفضل أهداف كرة القدم عبر تاريخها ، دون أن تلمس الأرض ، فليذهب خيدياتولين ( مع كثير من الاحترام) إلى الجحيم ومعه داساييف ، في بعض الأيام تجد الكرة موقعها في العارضة ثم طريقها إلى خارج المرمى ، وفي حالات أخرى تستقر في الزاوية المستحيلة ، الحصاد في تلك الظهيرة كان الفوز بهدفين ، لم تعكر صفوه ركلة الجزاء التي صدها فان بروكلين أمام بيلانوف قبل نهاية المباراة بدقائق ، في آخر لمحات قدمتها الكرة السوفيتية في تاريخها، والتي تفرغت لآخر أيام البرويسترويكا لدي عودة ذلك الفريق إلى موسكو. "عندما آرتفعت كرة موهرين عالياً ، ظلت مستقرة في الهواء فترة طويلة ، فكرت في استقبالها ثم تمريرها لزميل ، ولكني في أقل من ثانية قررت التسديد ، لم أكن واعياً بأهمية ما فعلته ، كل ما دار بخاطري وقتها أني حققت الهدف الذي حسم المباراة لنا ، ولكن بعد ذلك علمت أني أحرزت هدفاً جميلاً ، ما شاهدته في التلفاز بعد ذلك كان شيئاً استثنائياً".