مرّت الذكرى الأولى لعملية "أبوت أباد" التي قُتِل فيها أسامة بن لادن هادئة، وكان الهدوء سيستمر لولا اختيار مركز مكافحة الإرهاب، التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في وست بوينت، الإفراج عن 175 صفحة من الوثائق التي عُثر عليها في منزل ابن لادن ليلة مقتله. سبع عشرة وثيقة، ما بين رسالة، أو مذكرة داخلية أو تقرير، تضمّنت اقتراحات مُتفرِّقة، وبيانات ومُشاورَات، وضّحت آليات المُراسلة والتّفَاكُر داخل التَّنظيم، غَطّت الفترة من سبتمبر(أيلول) من العام 2006 إلى أبريل(نيسان) من العام 2011، تضمنت خطابات كتبها أسامة بن لادن ومحمود عطية وأبو يحيى الليبي وأيمن الظواهري، ووجهت إلى مختار أبو الزبير وأبي بصير(ناصر الوحيشي) وحركة الشباب وقادة في باكستان، من القاعدة المركزية إلى الفروع والعكس. يتحدث كثيرون أن الوثائق خرجت لتُبهرج نصر مقتل أسامة، ولتعيد البهاء لنصرٍ لم يسعد به أوباما، في زمان الانتخابات، الغريب أن الانتخابات هي موسم المساومات حتى عند “القاعدة” ففي إحدى الوثائق يتحدث أسامة عن تأجيل التفاوض حول الأسرى الفرنسيين في المغرب إلى حين اقتراب الانتخابات الفرنسية، فعلى ما يبدو أنّ الانتخابات موسم مهم للتفاوض والمساومة بين “القاعدة” وضحاياها، وبين الأنظمة وناخبيها، حتى في قضايا الإرهاب. تحوّل تنظيم القاعدة إلى هالات إعلاميّة فنِصف ما خرج ينصب في تناول الإعلام، وكيف خرج البيان الفلاني ولماذا يجب أن لا يخرج، والأخطاء الإعلاميّة، وكأنّ ابن لادن “الذي يُكنى في الرسائل بزامري” هو مُخرج لفيلم ما، لا قائد التنظيم الإرهابي الأكثر دمويّة بين التَنظيمات، ويبدو واضحًا أنّ الآمال الباهتة بالعودة لجسم قوي كانت مذبوحة، ويبدو جليًا أنّ القاعدات الكثيرة لا تُمَثِّل إلا نفسها، ولكنّ التنظيم لا ينفي صلته بها حتى يبقى على قيد الحياة، ولو على الإعلام فقط. إلى اليمن.. الاحتياطي الجهادي.. التهدئة.. لوم الإعلام أولى الرسائل كانت برقم 003 وجاءت موجّهة إلى “الشيخ محمود” وربما هو “عطية عبدالرحمن”، في 27 أغسطس(آب) 2010؛ طلَب فيها أسامة بن لادن من محمود أن يُخاطب فرع اليمن برسالة، يطلب منهم سيرةً مفصلة لأنور العولقي، وأن يبقى سعيد الشهري في منصبه، تضمنت الرسالة لومًا وجهه أسامة للخطاب الإعلامي لقاعدة اليمن وجزيرة العرب، وعاب عليهم كثرة الظهور التلفزيوني، وانتقد بشكل خاص خطاب سعيد الشهري حول اعتقال “بعض النساء في بلاد الحرمين”، يبدو أن المقصودة هنا هي هيلة القصير، التي احتُجزت عقب اتهامها بتأمين أموال للتنظيم.
أيمن الظواهري خليفة بن لادن في زعامة القاعدة كانت الوثيقة 0016، هي رسالة موجهة إلى ناصر الوحيشي، من قيادي يُعتقد أنه أسامة بن لادن أو عطية، توضِّح الرسالة استراتيجية “القاعدة” حيث إنها لا تريد دولة إسلامية واضحة في اليمن لأن العالم سينقض عليها، إذ اليمن خاصرة الخليج مكمن الطاقة الذي لا تفريط فيه، وبالرغم من قدرة “القاعدة” على قيام بدولة فيها، إلا أن كاتب الرسالة نصح أن يظل اليمن جيشًا احتياطيًا، وأن يُتجنّب التصعيد لأنهم في مرحلة إعداد، فأوصى بالتواصل مع القبائل والمشايخ في اليمن لكسبهم. الوثيقة 0017 تتكون من عدة فقرات، تشرح أن الهم الأول الذي يجب أن توليه “القاعدة” كل الاهتمام هو ضرب أميركا والتركيز عليها وقواتها وجنودها دون غيرها. الاستعداد للذكرى العاشرة.. خاطبوا عبدالباري الوثيقة رقم (004) كتبها مسؤول في “القاعدة” يُقيّم الأداء الإعلامي، ويبدي رأيه ومشورته في أمر طُلب منه في يناير(كانون الثاني) 2011، الجهة المُخاطَبة لم تكن معروفة، ولكن يبدو أن الاستشارة طُلبت من كاتب الخطاب بشكلٍ مُلِح، فقام الكاتب بتحليل كلمة لابن لادن، مشيدًا بأهمية ظهوره على الإعلام، وأفاض شارحًا ومحللاً تحليلاً وصل لدرجة مناقشة الجودة البصرية، وتعدى المضمون فكان حديثه عن الصورة والتصوير وتفاصيل النشيد الخلفي وغيره، وبيّن واضح أن ذلك طُلب منه المُفاضلة بين القنوات التي يجب مخاطبتها لتغطي الخطاب وتهتم به، وأثنى على اقتراح ابن لادن أن يتم التواصل مع عبد الباري عطوان أو روبرت فيسك، وقد ذُكرت القنوات التي يمُكن أن يتم ترتيب مسبق معها، ولكن أشار كاتب الخطاب إلى أن “الجزيرة” أضحت كغيرها تشترط أن تتضمن خطابات ابن لادن تهديدًا أو تبنيًا لعملية ما، وإلا فإن الخطاب يتعرض للإهمال، مُستشهدًا بخطاب ابن لادن حول الفيضانات الباكستانيّة، الخطاب نُعت بأنه (دبلوماسي) ولم يُغط إلا بعد فترة. في فقرة تالية تحدّث الكاتب عن ضرورة التسويق لعدالة قضية “القاعدة”، وحاول الدخول إلى الدِعاية لذلك في آيرلندا بوصفها “أمة مقهورة” تتفهم معاناة المسلمين حسب وصفه ووصل به حدًا من التفاؤل، طفق يتحدث فيه عن دعوتهم للإسلام، لأن علاقتهم مع الكنيسة سيئة حسبما قال! تحدّث الكاتب عن كارثة مهاجمة كنيسة بغداد، وأنها أفسدت على “القاعدة” استمالة الكاثوليك، وأفسدت عليه فرصةً لدعوة “النصارى” العرب إلى الإسلام. كما هاجم الكاتب “دولة العراق الإسلامية” وحرّض على إدانتها، وممارساتها “الجاهلة”. من المخيف الذي تضمنته الرسالة أن آلية التفكير الآنية “المصلحة والمفسدة والأولويات” سيطرت على من يقترح، وهي بذلك تنفك عن أي فقهٍ “ولو عائب” يمكن محاورتها عبره، وتتقمص دورًا براغماتيًا مخيفًا، فلا يبدو لها أصول أو مبادئ، إذ أن فقه المصلحة والضرورة والواقع طغت على المفردات كلها. سمّى الكاتب بعض “القاعديين” بأنهم متمسحون باسم “القاعدة”، ونقل حكايات تثبت أن فكر سيد قطب مازال محفزًا على العنف والإرهاب، وهدم المساجد. واشتكى من ميل القلوب إلى القسوة والجرأة على العنف والإرهاب. اتفاق “القاعدة” والشباب الصومالية.. يبقى سرًا في الوثيقة 005 ظهرت الكنية “زمراي” وهو (أسامة بن لادن)، يوجه رسالةً إلى مختار أبي الزبير قائد من قادة حركة الشباب الصومالية، وكان الأخير قد طلب من ابن لادن إعلان الوحدة بين الحركة والتنظيم، فنصحه ابن لادن بتأجيل إعلان ذلك، وأمره بأن ينشر خبر الوحدة بين الشعب، من دون إعلانه رسميًا، فإذا تم السؤال عن الأمر يقول “تربطنا بالقاعدة أخوة الإسلام”، وذلك خوفًا من تكالب الدُّول عليهم، ولأن أسامة حسب الوثيقة يفكر في حث التجار المسلمين على إقامة بعض المشاريع الخيرية هناك، ولو تمت الوحدة حسب زعمه لن يستطيع أحد القيام بشيء، في ختام الرسالة دعاهم أسامة لاقتناء كتاب “نقاط الارتكاز” والعناية به. في هذا البيت بأبوت أباد انتهى كل شيء قريبًا من الوثيقة السابقة كانت الوثيقة 006 وهي رسالة موجهة إلى زمراي (أسامة بن لادن) تعلّق على رسالته إلى أبي الزبير، وتدعوه لإعلان عضوية الصومال، ولتقييد العضوية وتشديد شروط البيعة، ومراجعة شروط الانتساب. يُظن أن كاتبها هو الظواهري، فهو يطلب إتلاف الرسالة بعد قراءتها، ويخاطب أسامة بلغة زمالة أو أخوة. لوم تحرير باكستان.. واستفتاء جيش الإسلام بغزة.. وتغيير الإسم.. وضرب أميركا فقط أما الوثيقة 007 فهي من محمود الحسن وأبو يحيى الليبي إلى أمير تحرير باكستان حكيم الله محسود، تدعوه للرجوع عن الخلاف، والتفريق بين أمير الجهاد والامارة العظمى، وتنهاه عن وصف “القاعدة” بالضيف، وتحذره أنها ستتبرأ منه إن لم يعد عن الخطأ الشرعي الذي وقع فيه. الوثيقة 008 تجيب عن أسئلة من جيش الإسلام في غزة؛ يجيب عنها الشيخ محمود، الأسئلة تتعلق بالتمويل والبورصة، اللافت هو سؤالهم عن حكم الاتجار بالمخدرات، رد عليهم بالحرمة، ولكنه في إجابة عن سؤال المال المختلط بين المخدرات وغيره أباح الانتفاع منه في الجهاد، وهو مدخل لتغسيل الأموال.
الوثيقة 0011 هي رسالة أرِّخ لها في 28 مارس(آذار) 2007، باسم حافظ سلطان، يتناول شؤونًا تنظيمية في العراق والجزائر، يطلب فيها أن يخرج زمراي(أسامة بن لادن) عن صمته ويوجه نصائح لأنصار السنة، ويسأل عن الصومال وأهلها، ويبدو في الوثيقة رد يقول “طبعًا أنا كتبت لأخوة الإسلام، عدة رسائل آخرها من يومين”، كما حوّل له طلبات لجماعة من الجزائر للإطلاع والتنفيذ. في الوثيقة 009 نقاش ينصح بتغيير اسم “القاعدة” لأي اسم آخر يرتبط بالإسلام. ويبدو أنها جاءت مبتورة من نصٍ لم يُنشر كاملاً. الوثيقة 0014 مكونة من رسالتين وجهتا إلى أبي عبدالرحمن، الرسالتان غير مؤرختين ولكن يبدو أنه تمت كتابتهما في العام 2007، تناولتا الحرب في العراق، ومعلومات خاصة. أقدم الوثائق كانت رقم 0018 وهي رسالة من “محب” إلى أسامة بن لادن، بحثت أضرار “تفجيرات الداخل”، من اعتقال وإغلاق للعمل الخيري، أرّخت في 16 سبتمبر (أيلول) 2006، كاتبها تربطه علاقة قوية بأسامة بن لادن، من صيغة المحبة والإجلال والإكبار، ويوجّه نصحه فيها لضرورة أن لا ينشغل أسامة عن مقارعة “أميركا” التي يرمز لها بالعدو الأكبر. بن لادن.. والشعوب الغاضبة.. أهم الوثائق هي 0010 في أبريل 2011 ولعلها تكون الأهم، وهي من أسامة بن لادن إلى محمود (عطية)؛ تحوي تقييمه للثورات وضرورة وقف التصعيد الإرهابي، ومن أهم ما أشار له هو رجوع الإخوان للفهم السلفي “ملمحًا إلى إمكانية تصالحهم معًا”، وأشار أيضًا إلى أن المصلحة لا تقتضي الآن مصادمة مع الأحزاب الإسلامية، بل إفراغ الوسع في التوعية ونشر الفكر.
وفي زُمرة توجيهاته التي يرسلها وجّه بأن لا يُقتَل الرّهائن الفرنسيون، لأن وقوف فرنسا مع ليبيا منحها شعبية لدى النّاس، فليتم ذلك (القتل) بعد انتهاء “أحداث ليبيا”، كما نصح بشير المدني بالبقاء في تونس إلى حين سقوط النظام في سوريا أو اليمن. وتوجيهات أخرى حول العمل الإعلامي واستغلال الاحتجاجات العربية، التي جعلها ثمرة لاستنزاف الغرب في أفغانستان. وثائق أبوت أباد بحسب مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في وست بوينت تعليقٌ وتحرير لخطاب أيمن الظواهري حول رسائل الأمل والبِشر لأهلنا في مصر، حوته الوثيقة 0013، وقد أشَّر المحرر لأخطاء في اللغة والفصاحة والبيان، كما رفض أن تنسب الاحتجاجات كلها وثمارها ل”القاعدة”، وقال يجب أن يقال إن استنزاف “القاعدة” للغرب “ساهم” ولا ينسب النجاح ل”القاعدة”، واصفًا ذلك ب”التبجح ومحاولة لاحتكار الإنجاز”. التأمين.. تأمين حمزة وأمه من إيران إلى باكستان الوثيقة 0012 فقد أرِّخ لها في 11 يونيو (حزيران) 2009؛ موجهةً إلى “شيخ” ربما يكون أسامة بن لادن من محمود عطية، تتحدث عن إطلاق مجاهدين من إيران، بمن فيهم عائلة أسامة بن لادن. وذكر ذلك في وثائق أخرى.
استراتيجية جديدة من أسامة بن لادن إلى “محمود عطية” الرسالة مؤرخة في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، كانت برقم 0015، بدأت بحديث عن أنّ القوم (أميركا) مسهم قرح مثلما مس “القاعدة”، وإشارة إلى خفض بريطانيا لميزانيتها، كما فعلت أميركا، وبدأ بتوجيه بالتأمين وضرورة تجديد البيعة وإرسالها له، وتأمين ابنه حمزة. اللافت أن حديثًا عن برنامج “شاهد على العصر” نُقل في الوثائق، إذ قال عنه ابن لادن “أما برنامج شاهد على العصر فلا أميل إليه، حيث إن المذيع يخرج عن اللباقة في بعض برامجه”. ويتحدث عن الإعلام كثيرًا، ويتوسع في ذلك استعدادًا للذكرى العاشرة لأحداث سبتمبر(أيلول) المأساوية، التي يصفها بأنها “غزوة”. نبّه ابن لادن لضرورة بث بيان الذكرى العاشرة في 29 أكتوبر 2011.
الوثيقة الأخيرة جاءت برقم 0019، وهي رسالة كتبت في أواخر مايو(أيار) 2010 أو بدايات يونيو (حزيران)، بدأت بالتعازي لوفاة مصطفى أبي يزيد (الشيخ سعيد) وأبي عمر البغدادي وأبي حمزة المهاجر، وفي الرسالة تم تعيين “محمود” خلفًا “للشيخ سعيد” ولمدة عامين. تضمنت الرسالة رسمًا للخطة الإعلامية والاستراتيجية العسكرية، وحزمة توجيهات لتنفيذ عمليات، وانتخاب مرافقين، ومتابعة تنقلات، وطلب تقارير، وترسية آليات جديدة، وتناولت الأخطاء الفادحة التي وقع فيها “القاعديون” في تأمين قادتهم، وأنّ الجماهير فقدت الثقة في “القاعدة” وأنه “أسامة” يريد استعادتها ببيانات مطمئنة تلامس الجماهير، فقد لمس أسامة أن العامة يميلون إلى الرفق وينفرون من الشدة. تحدّث عن أن قيام الدولة الإسلامية قبل أوانها واكتمال مقوماتها إجهاض لفكرتها. وقضايا مشابهة. متفرقات “القاعدة” ووثائقها تضمنت اقتراحات أن يظهر أسامة ابن لادن في لقاء صحافي، واقتراحات بأن يتم ضرب مصالح أميركية في كوريا الجنوبية. خلاصات الوثائق كشفت الكثير، كشفت نيّة “القاعدة” مهاجمة أميركا من جديد، وخطة أسامة لتدريب طيارين جُدد، وإرادته لبداية العمل لمرحلة جهادية جديدة، كل هذا يُعززه بالعمل الإعلامي، ويُفني فيه نفسه. يقول البعض، إنّ هذا معلوم بالضرورة لمن يتابع “القاعدة”، ولا يُقدم ولا يؤخر، فلماذا يُفرج عنه الآن؟ الإرهاب أكبر من “القاعدة”، والخطر منه قادم، ومقتل أسامة وكشف الوثائق لم يُغير الكثير، فلا تزال أفكار الإرهاب تسرح وتمرح، وتترعرع قريبًا من ما سُمي ميادين الحريّة، في تونس ومصر، وخيبات الأمل التي سترتد بها البلدان الثائرة، ستنتج وجهًا قاعديًا بغيضًا، فهل يود العالم الاحتفاء بنصر مقتل أسامة، وتدارس رسائل أسامة الأميركية، أم الانتباه لأفكار إرهابية لها سيقان!. *من عمر البشير الترابي