دلف إلى غرفته الصغيرة وسرعان ما اتكئ على حافة مكتبه العتيق، قلب دفاتره القديمة، وانتزع منها قصاصات مزقها بخنق، وألقى بها في سلة المهملات البالية، جال ببصره في أرجاء الغرفة، محرابه المتواضع، الذي قضى فيه اجمل سنوات حياته، في هذا المكان كتب قصة، وفي ذاك المكان دبح قصيدة، أو ألف كتاب. عاد بذاكرته للماضي الذي ذاع فيه صيته، وبلغت شهرته الأفاق، نجوميته ونجاحه جعلتا منه مرجعية يعتد برأيها وحكمها على مجريات الأحداث. كان حاسما كالسيف، صلدا كالجبال، يحمل هم أمة أراد لها الحياة، بسمو ورفعة، بدأ يضع يده على الجرح، يتلمس أماكن الوجع الذي أصاب المجتمع، خاض في المجهول.. ولم يلتفت لنصائح من سبقوه، لم يكن يدرك بأن الحجر التي ألقى به في المياه الراكدة، ستحرك سيول عرمرم تهز كيانه ، وتكتب نهاية حلمه الكبير، نشد الإصلاح.. فرموه بسهام الخيانة والعمالة، شنوا عليه حربا بلا هوداه، لأنه اراد لهم الخلاص من العبودية والشقاء، أودعوه في خانة (العزل) القوا به في سجن الحجر الاجتماعي، لأنه حاول أن يقربهم من بعضهم البعض .. أن يجعلهم يلتقون سويا في منتصف الطريق. نجحوا هم، فيما فشل فيه هو، أوصلوه إلى محطة اليأس خائر القوى، وتركوه وحيد!. سلط عيناه على بقعة ضوء شارد، ظل يرمق بنظرات حائره قلمه المسجى على صفحة بيضاء على طاولة المكتب، اصابعه يراودها الحنين لانتزاعه وعجن الأوراق بمداده الأسود، لكن الرهبة تمنعه، والخوف يلجم لسانه. رفيق عمره في السراء والضراء، تمرد عليه، سلاحه الوحيد في الحياة لم يعد يمتثل لأوامره، خرج عن طوعه، وأعلن العصيان عليه. حالة الاغتراب التي يعانيها الكاتب أثارت من حوله سحب أسئلة، هل هو من خان، ام أن قلمه غدر به؟، من باع ومن قبض الثمن؟، من نكث بالعهد وجازى الاخر بالجحود ونكران الجميل؟! وفي لحظة فارقة في حياته، التقط القلم، وكتب على صدر ورقة مهترئة، كلمات.. اعتزال كاتب.. انتحار قلم.