في الفترة الأخيرة، يشتكي منتمون إلى الوسط الرياضي، من تصاعد مؤشرات التعصب إلى درجات غير مسبوقة فيما مضى، ويشيرون إلى أن التهم باتت تلقى جزافا على العاملين في مختلف حقول الرياضة، ويتقاذفونها فيما بينهم، حتى تحولت البيئة الرياضية من جاذبة إلى طاردة. .. ويستشهد داعمو هذا الاتجاه، بأن مشاهد سلبية كثيرة تفسد الحرث والنسل، أصبحت تصدّرُ للمجتمع الكبير من بوابة فرعه الرياضي، ويقرع هؤلاء الأجراس بقوة، مظهرين الغيرة والمحبة، ومطالبين بتدخلات على أعلى المستويات لمواجهة ما صوروه بالوحش المفترس المتربص بمكونات نسيجنا الاجتماعي كله. .. أعتقد أن راسمي الصورة أعلاه يضيفون إليها كمية كبيرة من السواد غير حقيقية، وفي ظني أن منسوب التعصب لم يبلغ بعد مؤشرات تستوجب الفزعة على النحو الذي يُروج له. إن كان كل ما أصف به التعصب هو نفسه ما كان عليه الأمر قبل عشرة أعوام وتزيد، فما الذي تغير؟.. هذا سؤال يعبر بصاحبه إلى ميدان الحقيقة. والإجابة عنه تتفرع إلى أسباب عدة. أزعم أن سهولة توافر المنابر الإعلامية في أيدي الجماهير، أسهم في الترويج للتعصب، ولم يرفع مؤشراته إلى درجة الخطر، إذ أصبح المشجع الرياضي في أقاصي الشمال السعودي، قادرا على الوصول ببضاعته في ثوان معدودة إلى نظيره في أبعد نقطة على الحدود الجنوبية، مستخدما وسائط الإعلام غير الرسمية، ومنصات التواصل الاجتماعي غير المكلفة. قبل السبب الثاني، سؤال صغير يُطل هنا، يحاول إحباط الفكرة أعلاه، وهو: لماذا لا نرى إلا تصاعدا في التعصب ولماذا لا تستخدم المنصات الإعلامية الجديدة في تقديم نماذج جيدة؟ الإجابة لا تستهلك وقتا: بلى.. هناك نماذج جيدة في وسائل الإعلام الجديد، لكنها لا تلقى رواجا، لأن قصصهم تفتقد للجاذبية الناتجة عن الغرابة، ولأننا مجتمع شغوف بصنع أبطال وهميين حتى في أبسط الأمور. مثال ذلك، المشجع البسيط الذي احتفل بنحر جمل احتفالا بخسارة الهلال في نهائي دوري الأبطال، لم تكن قصته لتعرف وتروج دون توثيقها بالصورة والكلمة كما فعل، ولو تناقلتها الركبان عاما كاملا، بل إنها ستفقد الجاذبية والغرابة ذاتها فيما لو كانت قصة تتناقلها الألسن فقط. السبب الثاني الذي يدعو بعض المتابعين إلى الاعتقاد بأن مؤشرات التعصب ترتفع عما سبقها في سنوات خلت، هو استثمار أنصار فرق كرة القدم في البلاد، وسائل الإعلام الجديد في تكوين جماعات منظمة، تدفع بتوجهاتها إلى الساحة محاولة تكوين رأي عام، أو تيار على الأقل، وهذا لم يكن من قبل، إذ لم يكن المشجع يرى زميله مشجع الفريق نفسه إلا في المدرج، فيما يستطيع الآن تجييشه وتجنيده لخدمة توجهاته ومهاجمة أنداده دون الحاجة لمعرفة اسمه، ولذلك يعتقد البعض أن التعصب يرتفع ويتصاعد عندما يرون هذه المجاميع تسير في درب واحد بشكل منظم مدروس، تواجه مجاميع أخرى مماثلة لها في التكتل ومختلفة في الأفكار. ثالث الأسباب في ظني، أن كثيرا من إعلاميي المرحلة التقليدية- وما أكثرهم في الإعلام الرياضي- لم يستوعبوا بعد أن المشجع الذي كانوا يمارسون عليه الأستاذية، في مقالاتهم ومنتجاتهم الإعلامية الأخرى، ويغذونه بما يريدون ويمنعون عنه ما يريدون، لم يعد كذلك، أصبح يسابقهم على المعلومة ويسبقهم، كونه ابن عصره ومؤثراته يتفاعل معها أسرع، فيما هم تقليديون، ولذلك لا غرابة أن ترى بعض الصحافيين الرياضيين يقعون في مواقف حرجة مضحكة مذ أصبحت المسافات بينه والمتلقي أقصر، وكثير من هؤلاء الصحافيون والكتاب يحاولون اللحاق بما تبقى للحفاظ على مكانته ومكتسباته التي كفلتها احتكاريته السابقة للمنبر، بعيدا عن الجودة غالبا. .. سبب ليس الأخير، هو المبالغة الإعلامية الرسمية، في تناول ما يحدث في الإعلام الجديد، إذ أصبح الصحافي المتواضع القدرات يتلقف الشوارد من القصص في منصات الإعلام الجديد ويضخمها ويكبرها، حتى وإن كانت نظرة أولى كافية للحكم بسطحية وسفاهة ما سلط عليه ضوءه. السبب الأخير، مرتبط أيضا بتعدد منابر الإعلام الجديد وسهولة توافرها في أيدي أناس مختلفي القدرات والمواهب، دون أن يتوافق وذلك سن قوانين جديدة وواضحة تحمي العاقل من المجنون. *نقلا عن الاقتصادية السعودية