إحدى أهم المشاكل وأغربها المتعلقة بتاريخ الأمة العربية في موطنها الأول في عصورها السبئية هو أنه حتى اليوم لا يوجد في الوسط الأكاديمي "الرسمي" اي أساس علمي صحيح لكرونولوجيا (chronology) (تحديد زمني وترتيب تسلسلي) لعهود ملوك دولة سبأ القديمة. وباستثناء ما قدمه وتوصل إليه المؤرخ والباحث محمد حسين الفرح رحمه الله تعالى - الذي شق طريقاً بحثياً مستقلاً ومتحرراً مما فرضته المدرسة الاستشراقية على تاريخنا القديم – فخرج بشيء جديد وأسس بالفعل لبداية صحيحة في هذا الطريق يمكن بها تحديد وترتيب زمن العديد من الملوك السبئيين بكل ثقة- أقول - باستثناء ما قدمه الفرح رحمه الله - يمكننا القول بلا أي تحرج أن كل ما هو شائع حول التحديدات الزمنية لأولئك الملوك وما يتم تدريسه وبرمجة العقول به في الجامعات والمدارس وغيرها – كل تلك التحديدات والترتيب لأزمنة أولئك الملوك ما هي إلا نظريات وفرضيات هشة، استشراقية المنشأ والدافع، تعمدت واعتمدت في الغالب الإسقاط والخلط أساساً ومنهجاً ، ولم تكن يوماً مبنية على أدلة علمية حقيقية وثابتة. في هذه المقالة حديثنا بإيجاز حول حقيقة زمن واحد من أشهر ملوك تاريخ العرب في عصورهم السبئية، آلا وهو الملك شمر يهرعش الذي هو ابن الملك ياسر يهنعم وهذا الأخير هو الذي تولى ملوكية سبأ بعد زمن الملكة العربية الشهيرة السيدة بلقيس ملكة سبأ (*) بنت الشرح الهدهاد، وهي المعاصرة لسيدنا سليمان (سلام الله عليه) الذي حكم في القرن العاشر قبل الميلاد . بعد وفاة السيدة بلقيس ملكة سبأ في حوالى 921 ق.م حصلت فتنه داخلية في اليمن استمرت مدة غير معروفة بالضبط من الزمن - على ما يبدو أنها استمرت نحو 40 عاماً- وتشتت اليمن إلى دويلات عدة بعد أن تنازعت الزعامات السبئية بأحلافها من لقبائل على ملوكية سبأ.. ثم انتهت تلك المرحلة التاريخية وأحداثها في الأخير بسيطرة الملك ياسر يهنعم على البلاد (**) واستعادت دولة سبأ استقرارها وبدأ عهد جديد، وكان ذلك خلال القرن التاسع قبل الميلاد أي أن بداية زمن حكم الملكين ياسر يهنعم وابنه شمر يهرعش كان خلال هذا القرن . وما يؤكد ذلك بشكل قطعي هو أن هناك نقوش من عهد وباسم هذين الملكين مؤرخة بالتقويم السبئي الذي توازي أول سنة منه سنة 1221 ق.م ولكن المستشرقين قد اعتبروا كل النقوش المسندية المؤرخة أنها مؤرخة بالتقويم الحميري المتأخر الذي أول سنة منه تقابل سنة 115 ق.م وهذا خطأ ناتج إما عن جهل المستشرقين ومن سار على نهجهم أو عن تجاهلهم لحقيقة التقويم السبئي الباراني- نسبة إلى الملك باران ذوي رياش باني معبد باران في مأرب الذي يعود زمن بناءه إلى حوالي القرن الثاني عشر ق.م، وباران ذو رياش هو الحارث الرائش الثاني وهو نفسه الملك المسمى (بورنابورياش) في المصادر المسمارية، فهذا الملك هو من يعود إلى زمنه هذا التقويم السبئي الباراني الذي أول سنة منه تقابل سنة 1221 ق.م، وهو التقويم المؤرخة به نقوش مسندية للعديد من الملوك السبئيين (***). أقدم ما عثر عليه من النقوش المؤرخة بهذا التقويم السبئي الباراني هو نقش للملك ياسر يهنعم والد الملك شمر يهرعش وهو نقش لأقيال (مهانف ومذرحم) - في "يكار" يتحدث عن بناء قصر من ثلاثة طوابق ومؤرخ بشهر ( ذي مهلة من سنة 385 سبئي ) و هو العام السبئي الذي يقابله عام 836 ق.م : أي (1221 قبل الميلاد – 385 سبئي = 836 ق.م). فهذا نقش مؤرخ بالتقويم السبئي من عهد الملك ياسر يهنعم، كما أن هناك نقوش مؤرخة من عهد ابنه الملك شمر يهرعش بن ياسر يهنعم منها نقش مسند من موقع مدينة (هكر) ذكره أحمد شرف الدين في مجموعة نقوشه، وهو مؤرخ بسنة 396 سبئي وهي التي يقابلها سنة 825 قبل الميلاد أي : ( 1221 قبل الميلاد – 396 سبئي = 825 قبل الميلاد). وهناك نقش آخر مزبور على جبل قاع المعسال بردمان لأقيال (بني معاهر) من عهد وباسم الملك شمر يهرعش مؤرخ بشهر (ذي معن من سنة 409 سبئي) والتي يقابلها شهر مارس سنة 801 قبل الميلاد أي : ( 1221 ق.م – 409 سبئي = 811 ق.م) . هذا من ناحية النقوش الأثرية أما من الناحية التاريخية فإن الملك شمر يهرعش الذي لقبه الكامل هو (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويُمانة واعرابهم طوداً وتهامة)- هو الذي تحدثت أسفار اليهود عن غزوة العرب بقيادته على مملكة يهودا في عهد الملك يهورام والتي ورد ذكرها في سفر أخبار الأيام الثاني بالقول : (( وأَهَاج الرب عَلَى يَهورَام روح الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَالْعَرَبَ الَّذِينَ بِجَانِبِ الْكُوشِيِّينَ، فَصَعِدُوا إِلَى يَهُوذَا وَافْتَتَحُوهَا، وَسَبَوْا كُلَّ الأَمْوَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ بَنِيهِ وَنِسَائِهِ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ابْنٌ إِلاَّ يَهُوآحَازُ أَصْغَرُ بَنِيهِ)). وهذه الغزوة قام بها العرب في عهد الملك شمر يهرعش، كانت صمن حملات شاملة واسعة في المنطقة العربية وجهات أخرى مرتبطة بطرق التجارة العالمية، وقد بدأ هذه الحملات والده الملك ياسر يهنعم واستكملها ابنه الملك شمر يهرعش، وفد ورد ذكر هذه الحملات ومن ضمنها الغزوة على مملكة يهودا في نقش مسندي و ورد فيه اسم يهودا بلفظ ( دوأة ) وهو نقش من عهد الملك شمر يهرعش يرمز له بالرمز ( C.I.H- 407 ). ويهورام ملك يهودا هذا معروفٌ أنه عاش في هذه المرحلة الزمنية وكان بداية عهده في سنة 834 ق.م. فهذه بإيجاز سريع بعض الأدلة والقرائن على حقيقة أن الزمن الذي عاش فيه الملك شمر يهرعش ووالده الملك ياسر يهنعم – هو القرن التاسع قبل الميلاد . أما المستشرقون ومن سار على نهجهم فقد كان يحسبون التاريخ المدون في كل النقوش المسندية على أساس أن بداية التقويم المؤرخة به هو السنة المقابلة للعام 115 قبل الميلاد، ولهذا حسبوا تواريخ نقوش العديد من الملوك السبئيين بهذا التقويم المتأخر فاسقطوا زمنهم قروناً كثيرة، ومنها هذه الثلاثة السابقة الخاص بالملكين المذكورين فحددوا زمنها أنها ما بين عامي 270 – 296 بعد الميلاد. وهذا كان مدخلاً لربط البعض بين نقش النمارة وبين الملك شمر يهرعش بن ياسر يهنعم.. وكل هذا بسبب التضليل والإسقاط المتعمد للزمن الحقيقي لظهور المملكة السبئية وأخواتها من ممالك اليمن القديم ، ثم لأزمان ملوكهم وهذا هو ما جعل تاريخ اليمن القديم وعهود وعصور ملوكه متداخلة ومختلة وغير مفهومة ولم تظهر أي كرونولوجيا صحيحة موثوقة لهؤلاء الملوك باستثناء – كما ذكرنا - ما وضعه محمد حسين الفرح رحمه الله، وإن كانت تلك الكرونولوجيا ما تزال بحاجة إلى تعديلات مهمة وهذا ما سيتم قريباً إن شاء الله تعالى على ضوء الحقائق والاكتشافات العلمية الأثرية الجديدة أو القديمة التي تم تجاهلها أو تأويلها بشكل يتنافى مع الأمانة العلمية .. وأما ما سوى ذلك مما هو شائع فما هي إلا لخبطات وتلفيقات غير منطقية وتتناقض مع الحقائق الأثرية والوقائع التاريخية التي تتحدث عنها أو ترتبط بها . أ.ه هامش (*)- هناك من سعى للتشكيك في حقيقة وزمن هذه الشخصية النسائية التاريخية العربية السيدة بلقيس ملكة سبأ، وهذا يندرج فقط ضمن أمور كثيرة تستهدف ضرب وتشويش الذاكرة الحضارية والعقائدية للأمة العربية بشقيها المسيحي والإسلامي. (**) – قرر المؤرخ والباحث محمد حسين الفرح أن الذي تولى ملوكية سبأ بعد زمن السيدة بلقيس ملكة سبأ هو الملك ياسر يهصدق (ملك سبأ وذي ريدان) وليس الملك ياسر يهنعم والد الملك شمر يهرعش. ولم ينتبه الفرح أن النقوش المسندية من عهد الملك ياسر يهصدق وملوك من سلالته – لم تكن مؤرخة بأي تقويم، ولم ينتبه أن المعبودات في عصر ياسر يصدق مختلفة عنها في عهد ياسر يهنعم، ومن هنا اخطأ الفرح في تقريره أن ياسر يهصدق هو من حكم بعد بلقيس ملكة سبأ، وهذا يعد من الأخطاء المعدودة التي وقع فيها الفرح، نظراً للكم الهائل من التلفيقات والأوهام التي وضعتها المدرسة الإستشراقية على تاريخنا القديم. (***)– لمزيد من المعلومات والأدلة الأثرية المؤكدة لحقيقة هذا التقويم الباراني يمكن العودة إلى مؤلفات وبحوث المؤرخ محمد حسين الفرح وخاصة المجلد الأول والثاني من كتابه ( الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير) الصادرة عن وزارة الثقافة – صنعاء – 2004 م .