يكتشف الطفل الصغير أن المعلم الذي يزوره في المنزل ليعطيه دروسه قد حاز على قلب أمه، وأن عواطفه لم تعد تقبل القسمة على ثلاثة أشخاص هم أبوه والضيف الثقيل وشخصه هو، فيخبر والده بما يحصل، ما يؤدي إلى انتحار الأم، التي لم تعد ملكاً لأحد، لا بقلبها ولا عواطفها ولا جسدها. هذه القصة ليست فيلماً هندياً، وليست تلك الحكاية المتكررة في العديد من القصص والروايات، بل هي الوحدة السردية الأولى في التفاصيل الخاصة بفيلهلم رايش، الطبيب النفسي النمساوي اليساري الهوى الذي خلق شرخاً في مدرسة التحليل النفسي التي اشتغل عليها سيغموند فرويد في العقد الثاني من القرن العشرين عبر دفع الكثير من تلاميذه ليغوصوا بين الناس، لينقلوا له مئات آلاف التفاصيل النفسية ليدعم بها رؤاه وتكنيكه في علاج المرضى النفسيين. لقد برع التلميذ في استقراء التفاصيل، ما جعله يمضي أكثر مما ينبغي، فذهب إلى إيلاء الدافع الجنسي، أهمية أكبر مما خطه معلمه، الذي بسط النوابض المحركة لسلوكيات البشر ضمن محددات، له وحده أن يقرر أي واحد منها سيكون له الأثر الحاسم في أن تخرج النظرية من عالمها الافتراضي إلى عالم الحقيقة غير القابلة للشك..، ورغم أن فرويد قد حاول ضبط جنوح تلميذه، إلا أن كثافة طاقة فيلهلم في الإنجاز، أدت في النهاية إلى افتراق بين الاثنين، سيتطور من خلافات في الرؤى إلى خلافات حول الأسلوب والطرائق، وصولاً إلى التباعد ثم الاختلاف شبه الجذري، ثم الخروج عن المنهج، ككناية عن رغبة التلميذ الابن، في قتل المعلم الأب. روح طرية ولد رايش عام 1897 لعائلة جمعت بين ليون رايش المزارع اليهودي الذي يرفض تكريس يهودية أولاده، وبين سيسيليا رانيجر المرأة التي كان لانتحارها في العام 1911 أثر كبير في شخصية ابنها الذي عاش تفاصيل طرية، جاءت من عمله في مزرعة والده الذي سيموت في العام 1914 بسبب السل، وكذلك من تأثره بالمذهب الطبيعي الذي حكم التوجهات الثقافية للكثيرين ممن عاشوا الانتقال بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. طراوة روح رايش كسرها اشتراكه في الحرب ضمن الجيش النمساوي الذي ستكون هزيمته في الحرب استكمالا للوحة الفقد التي عاشها، حيث خرج من الحرب وقد فقد والديه ومزرعته التي باتت خارج حدود الوطن النمساوي، ولكنه لم يفقد إرادته فتوجه في العام 1918 إلى دراسة الطب في جامعة فيينا، وليتخصص بالطب النفسي، حيث سيجد نفسه في 1920 عضواً في جماعة التحليل النفسي التي أسسها سيغموند فرويد. بين عددٍ من الكهول الذين راقبوا قدرته على محاكمة الاستخلاصات الأولية والخروج منها بنتائج غير مثبتة، بعيون مستهترة، غير أن ركون رايش إلى تجاربه الشخصية كان ينمي مساره الشخصي ويقويه، لقد كتب في يومياته في العام 1919 “ربما تتعارض أخلاقي مع هذا. غير أنه من خلال تجاربي الخاصة، وملاحظتي لنفسي وللآخرين، أصبحت مقتنعاً بأن الحياة الجنسية هي المركز الذي يدور حوله مجمل الحياة الاجتماعية، وكذلك الحياة الداخلية للفرد”. رايش يربط الاقتصاد مع التحليل النفسي ويمنحه سلطة قراءة الظواهر المجتمعية يولد نفور المفكرين التقليديين منه ومن أسلوبه، لا سيما في كتابه (علم النفس الجماهيري للفاشية) في العام 1922 ساعد رايش على تأسيس حلقة فيينا الدراسية للعلاج بالتحليل النفسي، وبعد عامين أصبح رئيسها وقد تخصصت هذه الحلقة بدراسة الحالات التي استعصت على العلاج بالتحليل التقليدي، وضمن هذه الحلقة طوّر ومن خلال تجاربه العناصر الرئيسية لنظامه الخاص بالتحليل النفسي وهي نظرية “الأورجازم” ونظرية الشخصية (الطبع) وتكنيك تحليل الشخصية. ولعل أهم ما في هذه العناصر وكما يذكر بول. أ. روبنسون في كتابه “اليسار الفرويدي” وظيفة “الأورجازم” (القدرة على التفريغ التام لكل الإثارة الجنسية المحبوسة خلال التقلصات اللذية اللاإرادية للجسد) وهو الفكرة الثابتة المهيمنة عليه، فهو يحتل قلب نظرية الإنسان والمجتمع عنده، كما أصبح القانون الذي يفسر الكون بكامله، وبينما كان فرويد يرى بأنه ما من عصاب ينشأ دون صراع جنسي، إلا أن رايش استبدل كلمة “جنسي” بتعبير يتعلق بوظائف الأعضاء التناسلية. ليتحدد الافتراق بينه وبين فرويد عبر نزوعه إلى أن الشخص المريض بالعصاب وبتبسيط شديد للفكرة، “يسقط مريضاً بسبب الاضطراب التناسلي أو بالأحرى بسبب عجزه عن تحقيق لذة جنسية مشبعة”. وفي العام 1927 نشر رايش كتابه “وظيفة الأورجازم” ليفصح بذلك عن ثقة كبيرة بالنظرية تقود إلى اعتبار أن الغاية من العلاج بالتحليل النفسي هي ترسيخ الفعالية “الأورجازمية”. قتل الأب صحيح أن رايش أهدى الكتاب لمعلمه فرويد إلا أن هذا الأخير قابل توجه تلميذه بريبة كانت تتنامى شيئاً فشيئاً، ليقابلها رايش برغبة واضحة في قتل الأب الفكري، لتمضي المعركة بين الاثنين عبر الكثير من التفاصيل العلمية، وخاصة فيما يتعلق بالعناصر الأساسية المكونة لرؤية رايش الخاصة بقضايا الشخصية وتكنيك تحليلها.. كما أن الانزياحات الفكرية لدى رايش والتي تتعلق بانخراطه أكثر فأكثر بالماركسية، كانت تعمق الهوة بين الرجلين، فقد انتسب إلى الحزب الشيوعي النمساوي في العام 1928، وعمل على تأسيس جمعية اشتراكية للاستشارات الجنسية، كما أنه نشر كتاب “الديالكتيك المادي والتحليل النفسي” في العام 1929، وضمن هذا السياق بدأ بإلقاء المحاضرات بين الشيوعيين، مكرساً جزءاً غير قليل من وقته لصالح الطبقات الفقيرة والمسحوقة في المجتمع، غير أن عدم ركونه للديماغوجية الحزبية، وخروجه عن المانيفيست السياسي الحزبي أدى بعد وقت قصير إلى طرده من الحزب في العام 1932. الانطلاق الخيالي لترددات الطاقة من الجسد الإنساني، للوصول إلى المعاني الكونية غير القابلة للتفسير العلمي في ذلك الوقت أكسب فكرة رايش الفانتازية بعدا شعريا ولعل استرساله في ربط الاقتصاد مع التحليل النفسي ومنحه إياه سلطة قراءة الظواهر المجتمعية قد ولد النفور منه ومن أسلوبه، بين تلاميذ فرويد الآخرين، وهكذا جرى إبلاغ رايش بأن صدور كتابه “علم النفس الجماهيري للفاشية” جعل منه عائقاً أمام حركة التحليل النفسي، ما تسبّب في فصله فعلياً من الرابطة الدولية للتحليل النفسي في العام 1934، وهذا ما سيسرع من ابتعاده هو ذاته عن التحليل النفسي وصولاً إلى القطيعة معه، والغوص وبشكل نهائي في قضايا مجتمعية وعلمية ستؤدي إلى إنجازات كبيرة وإلى كوارث حياتية هائلة. استمع أيها الصغير لم ييأس رايش من هزيمته أمام الشيوعيين وأمام زملاء مدرسة التحليل النفسي، ولهذا فقد باشر ومنذ خروجه من ألمانيا بعد بدء تحكم النازية بالحياة فيها، تجارب مخبرية في الجامعات التي درس فيها في الدنمارك والنروج، هدفت للتمحيص في مؤديات “الأورجازم” على الجسد الإنساني، بالتوازي مع نشاطه السياسي، وخاصة بين الحركات الاشتراكية التي تؤيد فكرته عن تحرير المجتمع من خلال الحرية الجنسية، ولكن الأفكار السامية التي كتب لاحقاً عنها الكثير في مؤلفه النقدي الساخط “استمع أيها الصغير” كانت تقابل برداءة الواقع، وبخراب السياسيين العقلي والنفسي، وخاصة أولئك الذين كانوا يتخذون من مصالح الكادحين شعاراً لهم، وهكذا لم تمض سنوات الثلاثينات حتى كان رايش قد تلقى الهزيمة الذاتية الكاملة من نضاله الشخصي من أجل فكر كارل ماركس، الذي أفضى كمحصلة واقعية لسلسلة تاريخية من الممارسات السياسية اللاإنسانية إلى تساوي ديكتاتورية ستالين بنازية هتلر.. وبالتقابل مع هذه الهزيمة كان رايش العالم، والطبيب ينتصر في بحثه العلمي، ليخرج بعد سلسلة التجارب والأبحاث بنتائج تقول إن فكرة الدافع الجنسي لم تعد ومضة مجردة بل هي نشاط كهربائي فيزيولوجي، وبالتالي فإننا كبشر لسنا سوى “آلة كهربائية معقدة”، وفي عام 1939 اكتشف رايش ما يسميه قوة الحياة أو طاقة “الأورجون” العيانية التي يمكن قياسها بعداد مجال طاقي، وبأدوات مشابهة، ويمكن مراكمتها في مجال مخصص لها، ومضى من بعدها يكرّس كل جهوده لاكتشافها وتسخيرها في خدمة علاج البشر من أمراضهم المزمنة من الهستيريا إلى السرطان. طاقة 'الأورجون' التي اكتشفها رايش لا يمكن قبولها في أي تجربة تمحيص علمية، فقد باتت لديه منبعا لكل قوى الكون، وهي في حالة تصارع مع الطاقة الذرية طاقة الأروجون وفي الولاياتالمتحدة الأميركية التي هاجر رايش إليها نهاية الثلاثينات، بعد ضغوط من ليبراليي النروج، قفزت جهوده العلمية من المختبرات إلى الواقع العملي، حيث عمل في أعمال مكنته من أن يمول أبحاثه التي كان يغالي في الترويج لنتائجها، ولا سيما منها تضمينه لطاقة “الأورجون” مجالات خيالية غير واقعية، ولا يمكن قبولها بأيّ تجربة تمحيص علمية، فهذه الطاقة باتت لديه منبعاً لكل قوى الكون، وهي في حالة تصارع مع الطاقة الذرية، كما أن الانطلاق الخيالي لترددات الطاقة من الجسد الإنساني، للوصول إلى المعاني الكونية غير القابلة للتفسير العلمي في ذلك الوقت أكسب فكرة رايش الفانتازية، بعداً شعرياً هائلاً أثّر في جيل كامل من المبدعين الأميركيين ممن حملوا تسمية جيل “البيت” الأدبي، والذين كان في طليعتهم أدباء مثل وليم بوروز وألن غيسنبرغ. غير أن مسيرة أفكار رايش وتجاربه العملية التي حول جزءاً منها إلى أعمال يتم الترويج لها في المجتمع الأميركي، والتي بدأت تتطور باطّراد لافت، نبهت المؤسسات الحكومية الرقابية التي سرعان ما رصدت نشاطه لفترة طويلة، وخاصة تلك العلب المغلقة التي كان يجبر مرضاه على الجلوس فيها، والتي تقوم بدور جهاز لتجميع طاقة “الأورجون” OrgoneEnergy، فأصدرت السلطات قرارات منعته من تأجير هذه الأجهزة، ودعته إلى المحاكمة ولكنه رفض الامتثال لها، ما أدى في النهاية إلى الحكم عليه بالسجن لمدة سنتين، حيث أودت بحياته نوبة قلبية أصابته في الشهر الثامن لمحكوميته في العام 1957. لقد شكلت تجربة رايش الحياتية والفكرية بؤرة عظيمة التأثير بجيل كامل من الشباب الذي انفض عن الأفكار الشيوعية والليبرالية، واتجه فكرياً نحو الفوضوية أو اللاسلطوية (أناركية)، كما أن أفكاره عن التحرر الجنسي انتشرت كالنار في الهشيم بالتوازي مع الإنجازات الطبية التي أفضت إلى اختراع موانع الحمل، ولعل مظلوميته التي سببها موته في السجن، أبقت سيرته وتفاصيل أفكاره البسيطة والمعقدة في آنٍ معاً حاضرة لدى الكثيرين من أفراد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذين ما إن قاربت ستينات القرن الماضي على نهايتها، حتى اندفعوا في شوارع العواصم الأوروبية الكبرى في ثورة طلابية كاسحة رفعت صور رايش وشعاراته الفكرية. كتب رايش عشرات الكتب والدراسات، غير أن القارئ العربي لم يعرف منها سوى تلك التي قام اليساريون العرب بترجمتها، فيما خرج كتابه النقدي “استمع أيها الصغير” خارج هذا السياق، فقد تمت ترجمته إلى العربية مرتين، ورغم هذا الابتسار لمؤلفاته في السياق العربي، إلا أن أفكاره ولا سيما الخاصة بطاقة “الأورجون” حاضرة بين هواة الصنف، وبينما تحضر على موقع يوتيوب فيديوهات كثيرة عنه وعن أفكاره، يعثر المهتمون على عدد كبير من الأفلام الوثائقية والروائية التي تروي حياة رايش الخاصة والمختلفة والثورية.