منذ زمنٍ وضعت قلمي جانباً ولم أستطع كتابة حرفٍ واحد عما تمرُّ به البلاد من مآسي , فاليمن لا يعاني من أزمةٍ واحدة بل مجموعةٍ من المشكلات والأزمات المعقدة والمركبة , ابتداءً من الأزمات السياسية وانتهاءً بأزمة المشتقات النفطية وغيرها من الأزمات التي أنهكت المواطن قبل وبعد الحرب على مليشيا الحوثي ونظام علي عبدالله صالح. وضعت قلمي جانباً رغبةً في الكتابة بلغةٍ عقلانية وحيادية بعيداً عن العاطفة وعن تأثير أيِّ من التيارات المتصارعة على الساحة , ومقالي اليوم ليس لأجل نقد أو لوم جهةٍ ما , إنما هو محاولة لفهم ما يجري على الأرض وإيصال رسالة إلى كل غيور ومحب لوطنه , مع علمي أن لا أحد سيعجبه الصوت النشاز الذي لا يعزف مع سينفونية الشرعية أو مع قرع طبول علي عبدالله صالح والحوثيين , ولكنها كلمات لله وللتاريخ...
لنبدأ المشهد منذ قيام الثورة أو شبه الثورة الشبابية وتنازل صالح عن الحكم بموجب المبادرة الخليجية وترشّح عبدربه منصور هادي رئيساً للبلاد , منذ ذلك الحين والجميع -من عقلاء اليمن ودول الإقليم والعالم العربي والدولي- يراقب خروج اليمن من نفقٍ ضيق ومظلم ودخوله في نفقٍ أشد ضيقاً وظلاماً من سابقه , وذلك يعود لعدة أسباب أهمها :
1- علي عبدالله صالح حكم البلاد لعدة عقود استطاع خلالها فهم جغرافيتها الاجتماعية والاقتصادية , لذلك فقد مكّنه بقاءه داخل اليمن من اللعب خلف الستار وتحريك اللعبة في اليمن كيف يشاء , حتى وصل إلى مرحلة (عليّ وعلى أعدائي).
2- الرئيس التوافقي عبدربه منصور هادي كان نائب الرئيس علي عبدالله صالح في فترة حكمه , والجميع يعلم الدور الهامشي الذي لعبه لعدة عقود في ذلك المنصب كما أراد له صالح , لذلك فقد كان الأخير واثقاً من أن الأول لن يتمكّن من الإمساك بزمام الأمور في البلاد كما ينبغي في تلك المرحلة الحرِجة في تاريخ اليمن والتي تستلزم وجود شخصية قيادية قوية تعبِّء فراغ غياب الدولة وانعدام الأمن ما بعد الثورة أو الأزمة اليمنية. 3- أزمة القيادات في المجتمع اليمني بل وفي كافة الدول العربية التي قامت فيها الثورات في هذه المرحلة , حيث استطاع حزب بعينه إحكام السيطرة على أطراف الدولة الواحدة وهذا الحزب لا يدين بالولاء إلا لرجلٍ واحد هو رئيس الدولة الذي يُمعن في إذلال الجميع وقتل أو سجن كل من تسول له نفسه التفكير خارج إطار ما يرسمه الحاكم الملهم.
4- تقدُّم حزب الإصلاح الإخواني المشهد , وما صاحب ذلك من عداء غريب من قبل أطرافٍ عربية معروفة للقوى الإسلامية في المنطقة و التي رشّحتها الشعوب كبديلٍ للأحزاب العلمانية السابقة , ورغم الانتقادات الموجهة لحزب الإصلاح اليمني وقياداته إلا أنها كانت فرصة لتجربة جديدة كان يجب أن يخوضها الشعب اليمني ولكن للأسف لم تدم هذه التجربة طويلاً بعد اقتحام مليشيا الحوثي المشهد السياسي.
5- الحوار الوطني الشامل الذي فجّر المشهد برمّته , فخلال جلساته الحوارية كانت الأطراف الحوثية القادمة من صعدة تقف حجر عثرة أمام الكثير من القرارات الصادرة عن اللجان , إلى جانب بعض الأطراف الممثِّلة للقضية الجنوبية التي كانت تطالب بالكثير والكثير لصالح القضية الجنوبية . لقد خيّب الحوار الوطني آمال الكثيرين والذي لم تفعّل قرارته على أي مستوى من المستويات وهي نتيجة طبيعية للمقدمات الخاطئة التي سبقت الحوار.
6- القضية الجنوبية التي ظهرت بقوة على الساحة اليوم , فمنذ اجتياح مليشيا الحوثي لصنعاء وهروب الرئيس عبد ربه منصور إلى عدن وإعلانها عاصمة مؤقتة واستمرار ميليشيا الحوثي في التقدم نحوها ومن ثم هروب الرئيس خارج البلاد وتدخل قوات التحالف العربي ظهرت على الساحة الإعلامية العربية هذه المنطقة الجغرافية الاستراتيجية الممتدة في جنوب شبه الجزيرة العربية والتي هُمِّشت لعدة عقود منذ قيام الوحدة بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي , فباتت هذه القضية في مقدمة المشهد وظهر من يطالب بانفصال الشطرين في هذا الوقت خاصةً بعد ما أصيب المجتمع اليمني في الجنوب بضربةٍ قوية من موقف المجتمع اليمني في الشمال تجاه العدوان الحوثي الذي يدعمه علي عبدالله صالح , كيف ينسى المواطن اليمني في الجنوب السلاح الذي رفعه عليه جاره القادم من الشمال؟ إن الشرخ الذي أصاب نسيج المجتمع اليمني ردمه ليس من السهولة بمكان , بعد سنين من الظلم والتهميش التي عاناها أبناء اليمن في الجنوب لتأتي هذه الحرب وتكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير , وهذه حقيقة يحاول الكثيرون ممن يخرجون في وسائل الإعلام إخفاءها .
7- هناك وجوه لم تتغير منذ عهد صالح وحتى اليوم وفي مقدمتها رئيس الدولة , فكيف ننتظر تغييراً حقيقياً في البلاد إذا كانت المسألة بالنسبة لهم مجرد لعبة كراسي , وها هي الحكومة اليوم شبه مغيبة فمازالت الأوضاع متردِّية في المناطق المحررة.
8- التصفية الجسدية لجميع القيادات المخلصة من جهات مجهولة لتكون القاعدة هي المتهم الأول والأخير.
9- القاعدة التي دأب المخلوع على الحفاظ عليها وتغذيتها في جبال حضرموت بغرض الحصول على الدعم الأمريكي لمكافحة الإرهاب إبان حكمه ثم استخدامها كورقة هامة عند مغادرته , وهذا ما حصل بالضبط فبعد تركه للسلطة كانت تظهر في أوقات وأماكن محددة لتلعب أدواراً محددة , وها هي اليوم تملأ فراغ السلطة في حضرموت مع صمت غير مبرَّر من قبل الحكومة وقوات التحالف.
10- الدعم الإيراني الواضح لميليشيا الحوثي التي يقف وراءها المخلوع, حيث العقيدة الدينية الواحدة والمخطط الإيراني الاستراتيجي التوسعي في المنطقة الذي صادف هوس المخلوع وانتقامه من الشعب اليمني الذي رفض حكمه وأزاحه عن السلطة وانقلابه على دول المنطقة التي ساهمت في بقائه في اليمن.
11- الدور الذي يفتقد للحكمة والجرأة والسرعة الذي لعبته دول الإقليم أوصل اليمن والمنطقة إلى هذه النقطة الحرجة التي دفعت بها إلى استخدام القوة. 12- رغم معاناة الشعب اليمني لكنه أثبت للعالم قدرته على الصمود والثبات , وهنا أتحدث عن جميع الشرفاء الذين صمدوا على أرضهم ودافعوا عنها بدمائهم وأرواحهم رغم شحّ المؤن وغلاء الأسعار وغياب جميع الخدمات وانتشار الأمراض والأوبئة , إلى جانب الحالة النفسية العصيبة التي عايشوها أثناء الحرب من تدمير للبيوت وحرق للمتلكات بالإضافة إلى معاناة النزوح واللجوء , وأستثني منهم كل من سرق ونهب ووقف مع الظالم والفاسد.
13- رغم ما تمتلكه اليمن من موارد وثروات إلا أن الوضع الاقتصادي في اليمن يزداد سوءاً يوماً بعد يوم منذ قيام الثورة الشبابية ما يمثل عبءاً على المواطن اليمني ذو الدخل المحدود , ما يعني مزيداً من المعاناة , وذلك يدفع المواطن إلى فقدان الأمل في قياداته وغرقه في مزيدٍ من اليأس وربما الهروب إلى دول الجوار أو الدول العربية أو طلب اللجوء إلى الدول الغربية إن استطاع إلى ذلك سبيلاً , مع العلم أن معظم دول العالم تغلق أبوابها في وجه اليمنيين حتى الطلبة منهم.
14- الإعلام المنقسم على نفسه بين إعلامٍ منحاز للشرعية وإعلام منحاز للحوثي والمخلوع , ما يغيب صوت الوطن وصوت الإنسان اليمني ومعاناته.
15- الدور الذي تلعبه القبيلة في اليمن التي غالباً لا تفكر إلا في مصالحها الضيقة خاصة المادية , ما يدفعها للسير في ركب من يدفع أكثر ويمنحها نفوذ أوسع.
16- انتشار السلاح بل وتنشيط الاتجار بالسلاح يعرض البلاد لمخاطر الانزلاق لحربٍ أهلية لا مناص منها إذا لم يتم احتواء هذه القضية الهامة. كل تلك العوائق والمشكلات والظروف تحتّم علينا كيمنيين أن نعيد ترتيب الخارطة من جديد , ونحاول وضع النقاط على الحروف لنخرج من الهوُّة التي سقط فيها الجميع , فلا أحد خاسر في هذه الحرب المفتوحة والغير معلومة نهايتها سوى اليمن واليمنيين , ولا أحد سينقذ اليمن واليمنيين سواهما... لا أريد أن أغرق في كلمات إنشائية ولكن المأزق صعب للغاية , فالطرف الحوثي ومن ورائه علي عبدالله صالح وإيران طرف عنيد وشديد المناورة والتلاعب وذو نفس طويل ولنا في سوريا عبرة , ودول التحالف تبذل قصارى جهدها في ردعهم , ولكن عتبي على الحكومة اليمنية التي لا تبذل قصارى جهدها كما أظن خاصة في المناطق المحرّرة والتي تعاني انعدام الأمن والخدمات العامة وانتشار العصابات والبلطجة والسلب والنهب , هذا التقصير ستكون نتائجه سيئة للغاية وهي ستكون معرّضة لأحد هذه السيناريوهات:
1- عودة الخطر الحوثي إليها.
2- القاعدة وداعش وما شابهها من تنظيمات تعشق مناطق الفوضى وبذلك ستكون تلك المناطق فريسةً سهلة بين أيديهم.
3- ظهور الطامعين في السلطة على الساحة من أحزاب وقبائل وجماعات مسلحة وبداية قيام حرب أهلية فيما بينهم البين.
لذلك أرى ضرورة بذل أقصى ما يمكن بذله لتأمين تلك المناطق وحمايتها من الأخطار المحدقة بها , والبحث عن شخصيات قيادية حقيقية مخلصة ولها شعبية يتم تهيئتها في هذه المرحلة لتتمكن من قيادة البلاد في المرحلة القادمة بالشكل المطلوب , كما أن الاهتمام بالجانب الاقتصادي للبلد أمر ضروري للغاية , صحيح أن الحرب تستنزف مقدّرات الدول , ولكن على الحكومة أن تولي عنايتها بتنمية الاقتصاد في المناطق المحررة . من ناحية ثانية يجب على الحكومة العناية الفائقة بملف القضية الجنوبية بحلٍّ مناسب يضمن عدم الإضرار بأي طرفٍ من الأطراف وبطريقة سلمية وحضارية مرضية , لقد كانت فكرة تحويل اليمن إلى نظام فيدرالي فكرة جيدة ولكنها تحتاج إلى بذل جهود حقيقية لتطبيقها وليس مجرد كلام على الورق.
وأخيراً وبما أني لا امتلك خبرة أو معرفة عسكرية فأتمنى أن تنتهي الحرب عاجلاً غير آجل وأن يتراجع المخلوع عن جنونه وأن تتوقف جماعة الحوثي عن فرض نفسها كخيار وحيد , ونصيحة أخيرة للشعب اليمني أن يقاوم كل من يريد أن يفرض التبعية على اليمن من الخارج , فلا أحد سيحب اليمن مثل أبنائه فلا تعوّلوا كثيراً على الخارج , والتاريخ شاهد على مدى الخسارة التي تنال الأمم التي تتكئ على غيرها , ولا خير في أمةٍ تأكل مالا تزرع وتلبس مالا تصنع.