حتضنت قهوة “أي كافيه” في شارع سرسق البيروتي توقيع كتاب المحلل السياسي، والصحافي العريق، خيرالله خيرالله، “حرائق اليمن” في حفل اتسم بالأناقة والحيوية، وشاركت فيه نخبة من نجوم السياسة والإعلام والمجتمع وأصدقاء الكاتب والمهتمين. كان لافتا أن يباع كتاب جدي يعرض للمسألة اليمنية حوالي 140 نسخة في زمن القحط السياسي والفكري، والخبر العاجل، والفضائيات والعجلات المتسرعة. اتخذ الاحتفاء شكل إعادة الاعتبار للتحليل الجاد، والرصين، ولدور الصحافي في الشهادة الحية على الحدث، والتي تحافظ على حرارته ومعناه، ولا تحوله إلى سياق مفتوح من التأويلات التي تقضي على إمكانية فهمه. الحرارة والوضوح لعل الخلاصة التي يخرج بها الكاتب خيرالله في كتابه والتي تعتبر أن اليمن الذي كنا نعرفه لم يعد موجودا، تقدم المدخل الأكثر جدارة بالاعتماد عليه في محاولة قراءة خطاب الكتاب وهدفه، حيث أنه يعطي لقيمة الشهادة التي يدونها معنى خاصا، مرتبطا بمحاولة الحفاظ على المكان وذاكرته. يؤمن خيرالله أن التواريخ والسير والحوادث تموت إذا لم تحفظ داخل إطار النظرة الصحافية المهنية، التي تسعى من خلال سبرها وتدقيقها والإضاءة عليها إلى الحفاظ على روح البلاد، وعلى دور وسير كل من كانوا مشاركين في صناعتها. يتجنب الكاتب الرثاء على الرغم من حزنه الكبير على ما آل إليه هذا البلد، الذي لم يكن في نظره مسرحا لاختبار مهارته الصحافية، بقدر ما كان شغفا خالصا أسس لقراءة صحافية مختلفة، نجح فيها خيرالله في الحفاظ على الحياد الذي يطبع العمل الصحافي، وبين نظرة العاشق المندهشة. نتيجة هذا التناغم الذي غالبا ما يكون مستحيلا كانت كتابته التي يمكن وصفها ب”الكتابة الحنونة”، وهي كتابة تحنو على الحدث، وعلى الأشخاص، وعلى الأمكنة، ولكنها ترفض في الآن نفسه أن تغمض عينيها عن قسوة الوقائع، وفظاظتها، وعنفها، وتنجح بذلك في أن تكون مسردا تسود فيه حرارة العاطفة ووضوح النظر في آن واحد. التواريخ والسير والحوادث تموت إذا لم تحفظ داخل إطار النظرة الصحافية المهنية، التي تسعى من خلال سبرها وتدقيقها تنفتح بعض محطات الكتاب على تحليل سياسي عميق ينطلق من السيكولوجيا اليمنية ليضيء على طبيعة الحدث اليمني وفرادته. يقول الكاتب إنه خلال زيارته الأولى إلى صنعاء “اكتشف أمرا في غاية الأهمية، وكان درسا في التعامل مع اليمنيين، إياك الاستخفاف بيمني أيّا كان موقعه”. هذه الملاحظة تسمح بتفسير الصراعات اليمنية – اليمنية التي اتخذت طابعا دمويا في أكثر من مرحلة، وسوء فهم المحيط العربي للواقع اليمني والذي تسبب في تحول اليمن إلى حريق مفتوح. قصر نظر يعرض الكاتب لقصر النظر العام بشأن الموضوع اليمني من خلال الاستخفاف بموضوع الوحدة، والذي بدا للكثيرين أمرا مستغربا وغير واقعي. ويعلن في أحد فصول الكتاب المعنونة “لماذا توقعت الوحدة؟”، “لم تكن الوحدة مستبعدة إلا لدى الذين يستخفون بعلي عبدالله صالح”. عرف قائد الدبابة الذي أصبح رئيسا كيف يناور في كل وقت. من نقاط قوته أن خصومه كانوا يستخفون به. كان السياسيون الجنوبيون مجرد هواة مقارنة به، خصوصا أنهم كانوا يعتقدون أن المدرسة الماركسية تعلم السياسة وأن في استطاعتهم في نهاية المطاف حل أي مشكلة عن طريق اللجوء إلى السلاح”. هذا الاستخفاف نفسه هو الذي سمح بنشوء ظاهرة الحوثيين التي قضت على كل إمكانية لبقاء اليمن موحدا. ويرى الكاتب أن أخطر نتائج هذه الظاهرة يكمن في أنها أفقدت صنعاء دورها التاريخي على الصعيد اليمني، فبعد أن كانت الصراعات تدار في الماضي منها “كونها المركز” انتقلت الصراعات إلى داخل أسوارها.
مسرد تسود فيه حرارة العاطفة ووضوح النظر في آن واحد
كما أن سوء تقدير الوضع اليمني أتاح لإيران إمكانية الاستثمار الحربي والعقائدي في الحوثيين وتشكيل حالة موالية لها تهدد من خلالها المنطقة، ما دفع بالسعودية إلى إنشاء “عاصفة الحزم” في رد مباشر وقوي على التهديد الإيراني الذي اقترب من أسوارها. هذا الرد كان ردا عالي الكلفة، وكان يمكن تجنبه، لو لم تسقط السعودية، كما سقط قبلها الكثير من المتعاملين مع الحريق اليمني، في فخ الاستخفاف الذي أعمى الجميع عن رؤية واقع هذا الحريق وأبعاده، وتسبب في نهاية درامية لبلد كان يمثل حالة استثنائية غنية بالفرص التي تم إجهاضها. الإرياني واليمن اهتم خيرالله باليمن منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، وزار البلد الذي كان دولتين مستقلتين للمرة الأولى في مطلع العام 1986. والتقى كبار الشخصيات اليمنية وأجرى أحاديث صحافية معها بصفته رئيسا للقسم العربي والدولي في صحيفة “النهار” اللبنانية بين 1976 و1988، ومديرا للتحرير لصحيفة “الحياة” بين 1988 و1998 وكاتبا عربيا مستقلا من 1998 إلى اليوم. لذلك عندما يكتب عن الشخصيات اليمنية، يتحدث عن أسماء جالسها وسمع منها وحاورها في أكثر من مكان وحدث، فمثلا يصف الانقسام حول الراحل عبد الكريم الأرياني بأنه سياسي يؤمن بالوضوح والكلام المباشر، لذلك كان الانقسام حوله بين معجب محبّ، وكاره له في العمق. ويرى خيرالله أن ما فعله هذا الرجل لليمن واليمنيين لا يقدّر بثمن. فقد قاد الإرياني، الذي ينتمي إلى عائلة شافعية من القضاة في محافظة إب، للدبلوماسية اليمنية خلال حرب الانفصال صيف العام 1994. وكان رئيس الوزراء بالوكالة، وقتذاك، الدكتور محمّد سعيد العطّار الذي لعب في حينه دورا محوريا في تلميع صورة اليمن. وكانت معرفة الإرياني بطريقة عمل السياسة الأميركية كافية لتفادي وقوع اليمن في أفخاخ كثيرة. وبعد توقف الحرب، لعب دورا رئيسيا في المواجهة الدبلوماسية مع أريتريا التي احتلت جزيرة حنيش في العام 1995، وكانت ترغب في جرّ اليمن إلى حرب خاسرة سلفا. وكان بين مجموعة كبيرة من رجالات الدولة الذين أحاطوا بعلي عبدالله صالح لفترة طويلة وساعدوه في اتخاذ قرارات تتسم بالحكمة وذلك في زمن كان مجلس الرئيس اليمني يجمع الإرياني وعبدالعزيز عبدالغني ويحيى المتوكّل ومحمّد سعيد العطّار ومشايخ كبار من طينة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، رحمهم الله جميعا. كتابة خيرالله خيرالله تحنو على الحدث، وعلى الأشخاص، وعلى الأمكنة، ولكنها لا تغمض عينيها عن قسوة الوقائع هناك خط دائم ربط بين كلّ تصرّفات عبدالكريم الإرياني. هذا الخط هو خط الدفاع عن “الشرعية” ومؤسسات الدولة في اليمن. وكان هذا الخطّ سبب افتراقه وعلي عبدالله صالح. ثم صار مستشارا للرئيس الانتقالي عبدربّه منصور، وغادر صنعاء بعد هجوم شنّه على الحوثيين الذين كان يعتبرهم منذ العام 2004 “أشدّ خطرا على اليمن من الانفصاليين”؛ وقد قال فيهم “أعرف هذه الفئة السياسية أو الحركة الحوثية أو أنصار الله. إنّهم يمثلون حركة سياسية غير مدنية تسعى إلى تحقيق أهدافها بالطرق والوسائل العسكرية. بالنسبة إلي تلك الأهداف غير معلنة أو غير معلومة ويبدو أنها غير محددة… ما نراه اليوم في كلّ مؤسسة وفي كلّ وزارة هو تصرّفات لقوة سياسية طابعها عسكري ولا يحكمها القانون. يؤسفني أن أكون قاسيا، لكن الكذب محرّم”. رفض عبدالكريم الإرياني أن يكذب على اليمنيين يوما. ورحل مطمئنا غير نادم سوى على أنّه لم يشاهد آخر مسرحية تعرض في نيويورك أو لندن. كان سياسيا يمنيا وعربيا من نوع مختلف ومن طينة أخرى تحبّ ثقافة الحياة. كان يستمتع بمجلس القات في صنعاء، حيث كانت نقطة ضعفه الوحيدة مراعاة أفراد أسرته أكثر من اللزوم أحيانا، ولا ينسى الكلام في الفن والأدب والسياسة، وآخر مطعم دخله في إحدى مدن الولاياتالمتحدة أو في هذه المدينة الأوروبية أو تلك… أو في بيروت التي كان يكنّ لها ودّا خاصا، بل خاصّا جدّا. شادي علاء الدين