عن احتباس الذَّوق العام وأزمات العقل السياسي الغائب..! ليس في الأمر مبالغة أو انتفاخ مشاعر، ولا حرقان عواطف أو لهيب مزايدة.. لكن ما وصلنا إليه يشير إلى أن المجتمع اليمني من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه يعيش حشرجة نداءِ حرَّاق، يردد بحسرة مخنوقة: * يا وطننا الجاثم على مياه بحرين، ومضيق، وصحراء، وأودية وجبال وثروات طبيعية لافتة.. ما الذي يحدث لك.. لماذا تتعقد أمورك أكثر فأكثر، حتى صارت مدن اليمن وقراه وحتى الشتات سجنًا وغربة وخنقة..؟! إلى متى يتواصل اتساع الخرق، وليس من راقع، وليس من دافع..؟ وما الذي يحدث لليمنيين حتى صار الواحد منهم يقول لصاحبه بأنه يبحث عن ضوء في نهاية النفق، فيرد عليك بيأس: وأين هو النفق..؟ * نحن نعيش في زمن يمني مأزوم ومجنون يتعقَّد فيه المعقَّد، ويفرض على كل لاهث وراء المكاسب الشخصية والجهوية أن يلتقط أنفاس أطماعه، ويتوقف عن سكب الزيت على النار، ويدرك حقيقة أنه ما أسهل إشعال الحرائق، وما أصعب إطفاؤها..! * وهذا الحال يفرض المسارعة إلى خطوة تنظيم يسمع الجميع فيها الجميع.. وتُدَقُّ بها أجراس التحذير من نسيان هذه البقعة الجغرافية من العالم.. وتأملوا كيف أنه لم يعد العالم يتحدث عن السودان رغم ما فيه من المآسي، وسبقه الصومال إلى ذلك، وما يزال حبل تسمية الدولة الفاشلة على جرَّة فخارية لا تحتمله فتنة السوق. * اليمن ينتظر عودة السلام وعودة الحياة وإيقاف مهزلة أفكار كنتونية أهدرت البلد التاريخي في كيانات مرتهنة، ظالمة، تواصل تخريب بلدٍ اجتمع عليه المغضوب عليهم والضالين من كل مكان. * ضاعت الملامح، ورخصت المعاني بصورة جعلت الكثيرين يفقدون الأمل في إيقاف مهزلة إضاعة بلد يثير البحث المضني عن حلول مفرحة، لكنها لا تأتي من كيانات غارقة في الفشل القيادي سياسيًا واقتصاديًا ومحبطات التمسك بمتواليات صناعة البؤس، والتأسيس للخذلان..! * ولا أجدني مبالغًا لوقلت: يولد الواحد منا وكله براءة وخير.. وفي بعض المناطق يأتي من يؤذن فوق رأسه ليطرد إبليس اللعين عنه من صباح الصبح، وسرعان ما يظهر من يلعب بالإعدادات، فترى البريء يكبر على من يعلِّمه بأن يقع رجَّال وذيب وابن عُقَبة، وأن لا يبكي من أيّ ألم أو انزعاج؛ لأنّ البكاء فقط للنسوان. * وبعد مرور فترة بسيطة على مولده تشجع العائلات الطفل فيها على اقتناء قوس يساعده على ملاحقة كل ما يطير بجناحين، وما يمشي على أربع، وما هو زجاجي شفاف فيكون التأسيس لعدوانية مبكرة نراها في معارك متواصلة أثناء عودة التلاميذ من المدرسة، ونراها في صور مختلفة ومتناقضة، كأن يوقف صديقان الشارع بسيارتيهما ويدخلا في فاصل كبير من البؤس والكلام، فيما الآخرون في حالة من انزعاج يسهل ملاحظته في صور عديدة أبرزها ملء الفضاء بصوت منبهات لا يعيرها الصديقان أيّ اهتمام.. وفي شارع آخر تتوقف الحركة بسيارتين اختلف سائقاها بسبب انحدار مفاجئ في منسوب الذوق العام، وهكذا فإن الشارع في اليمن يتوقف مع الخصام ويتوقف لزوم السلام والكلام. * أما الكارثة التي أشهرت أنيابها في الفترة الأخيرة من زمن إعلام إلِكتروني وضع النقاء والوساخة في سلة واحدة، ثم انتصر للوساخة وجعل منها الترند الأحق برعاية الإعجاب والقلوب والقهقهات، فهو دخول المنشورات والفيديوهات التي تستدعي ما هو طائفي وحزبي وسلالي ومذهبي، وبمفردات تظهر في توقيتها وتجددها ولعبها على خارطة الفرقة الجهوية بأنها صادرة عن مطابخ تنفق على البنزين وأعواد الكبريت بمثابرة هدفها الاستثمار في المزيد من الحرائق داخل بلد لا تنقصه الكوارث، ويبحث عن بقايا عقل وارتدادات إيمانٍ وفِقْهٍ، وشظايا فقه وحكمة. * زمان كان الفاسد يستحي ويخجل.. اليوم الفاسد والعابث لا يخجل، بل ويقدِّمُ نفسه بطلاً. صار أبو الوجهين والثلاثة والأربعة هو المقرب من صاحب القرار.. وصارت الغلبة لكلِّ من يُبدي الوطنية والرحمة وفي باطنه ولسان حاله الخداع والعذاب. أفكار ترفض أن تتقاطع عند حلول مطمئنة؛ ربما لأننا نعيش زمنًا يمنيًا يتردى فيه الذوق العام، وتتحول فيه السياسة عند الكثيرين إلى خذلان عام..