لم ينسى ذلك اليوم ، عندما شاهد كائناً بشرياً مخيفاً يتقدم نحوهم ببطء ، وهو يزمجر بصوتٍ خلع قلبه ، وفي عينيه تدلى الموت ، لم توقفه سهام الحراس التي اخترقت أنحاء جسده ، تشبث بوالده مفزوعاً ، أبعده والده وأمر الحراس أن يحيطوا به ، استل سيفه وتقدم نحو ذلك الكائن ، نادى هو على والده في خوف ، رد عليه الأخير بالتفاتة تحمل ابتسامة واثقة ، ثم رفع سيفه وهوى به مطيحاً برأس الكائن الذي سقط جسده بجانب رأسه المخلوع . لم ينم ليلتها وهو يفكر بذلك الكائن ، فبرغم خوفه وفزعه منه إلا أنه أحس بشفقة نحوه لا يدري لها سببا ، سأل والده : _ من كان ذلك الرجل المخيف يا أبي ؟! تنهد والده وأجاب : _ لم يكن رجلاً يا بني ! _ أكان غولاً ؟! _ لا .. ليس غولاً ! بل هو ميّت! _ ميّت ؟! _ أجل ميّتُ جاء من أرض الموت التي يسكنها الموتى ! _ أنّى لميّتٍ أن يمشي ؟! _ حُرِمَ من نعمة الموت ! _ وما الذي جعله ميّتاً هكذا ؟! _ سُلِبَت منه الحياة ! _لم أفهم ! ابتسم والده ، وربّتَ على رأسه وهو يقول : _ هؤلاء الموتى كانوا بشراً مثلنا ! لكن لعنةً أصابت أرضهم وانتزعت الحياة من أرواحهم دون أن تقبضها ! فباتوا يعيشون اللا حياة واللا الموت حتى صاروا مثل ما رأيت ! _ وما سبب تلك اللعنة التي أصابت أرضهم ؟! صمت الأب برهة وقال : _ زعيمهم وحاشيته ! تملّكهم الطمع فسعوا في الأرض فساداً .. وأهلكوا الحرث والنسل .. حتى قضوا على آخر رمق للحياة في أرضهم ! _ وهل تحولوا إلى موتى أيضاً ؟! ابتسم الأب في أسى وأجاب : _ كلا .. هم يعيشون في أرضنا بسلام ! هتف الابن مستنكراً : _ كيف يا أبتي تترك فاسدين يعيشون على أرضنا ؟! ربت والده على كتفيه وقال : _ لقد استجاروا بي .. وأنا لا أرد أحداً يستجير بي .. هكذا كانوا أجدادنا وهكذا يجب أن تكون يا بني ! صمت الابن هنيهة ثم سأل : _ ألا من سبيل لإعادة الحياة لأرض الموت ؟! _ بلى ! هتف الابن في لهفة : _ كيف ؟! _ أن تُغرس نبتة في قلب الأرض ! _ وأين هذه النبتة ؟! ابتسم الأب وقال : _ أرضنا عامرة بالنباتات ! _ إذن لماذا لا نأخذ واحدة ونغرسها في أرض الموت لنعيد الحياة لها ؟! _ بات هذا الأمر مستحيلاً يا بني ! فالموت مصير كل من يقترب من تلك الأرض ! هؤلاء الموتى يفترسون أي كائن حي ! _ ولكن يا أبي .. _ يكفي هذا ! .. لقد تحدثت معك وأطلتُ الحديث ! نم الأن ! غادره والده ، نام هو ، وراح يحلم بأرض الموت ، طال حلمه حتى شبّ وصار فتياً ، قوي البنية ، ذهب إلى قصر زعيم أرض الموت ، ووجده وحاشيته في لعبٍ ولهوٍ ومجون ، ارتبك الزعيم وحاشيته لمرآه ، فصرفوا الجاريات والولدان ، وقال الزعيم في حرج : _ مرحا بالأمير ! قال له الأمير في حزم : _ أني ذاهبُ لأغرس نبتةً في أرضك ! تبادل الزعيم مع حاشيته نظرات فزعة ، ثم قال : _ معذرةً أيها الأمير ولكن ما تقوله ضرباً من الجنون ! ردد الأمير في حزم : _ من سيأتي معي ؟! خيّم الصمت عليهم ، ما جعل الأمير يبتسم في شماتة ويقول : _ كنتُ أعلم ! تنحنح الزعيم وقال : _ معذرة أيها الأمير ! هل والدك .. أعني مولاي على علم بهذا ؟! _ لا حاجة بأن يعلم ! مضى وتركهم في حيرة يتخبطون ، رَكَبَ حصانه ، وأخذ معه حصانين آخرين ، وغادر مملكته ، وصل إلى أرض الموت بعد مسيرة يومين ، استقبله الموتى مزمجرين ، حرر هو الحصانين كلاً في اتجاه ليشتت شملهم ويشغلهم عنه ، ومضى مسرعاً حتى وصل إلى قلب الأرض ، ترجل عن حصانه ، ففوجئ بميتٍ يقترب منه ، استل سيفه ورفعه في الهواء يهم قطع رأسه ، هتف الميت : _ توقف أيها الأمير ! أنا لستُ بميّت ! دُهِشَ الأمير وقال : _ من أنت ؟! _ أنا نائب زعيم الأرض ! لقد ارتديت هيئة الموتى حتى أتمكن من دخول الأرض وأسير بينهم دون أن ألفت نظرهم ! _ فكرة جهنمية ! كيف لم تخطر لي ؟! كانت ستوفر عليّ التضحية بالحصانين! _ هل النبتة معك ؟! _ أجل ! وأخرج النبتة من جيبه ، فقال له نائب الزعيم : _ أتسمح لي أيها الأمير أن أغرسها بنفسي ! _ إنها أرضك ! وقد خاطرت بحياتك من أجل هذه اللحظة ! ناوله الأمير النبتة ، أخذها النائبُ بلهفة ، ثم مزقها ، صرخ به الأمير مستنكراً: _ ما الذي فعلته أيها المعتوه ؟! _ سامحني أيها الأمير ! ولكن ليس في صالحنا عودة الحياة لأرضنا ! صرخ الأمير وهو يرفع سيفه : _ أيها الخائن الجبان ! امتدت عدة أيادٍ سحبت الأمير أرضاً وهي تزمجر ، لوّح النائب له ساخراً وابتعد، تاركاً الموتى يفترسون الأمير الذي أطلق صرخة قهرٍ خانتها الحياة .