في عام 1963 م، عندما كنا تلامذة في الصف الثالث الإبتدائي. كانت مدرستنا(المحسنية) على موعد مع زيارة وفد من إدارة معارف حكومة الإتحاد، (الغيرمرغوب فيه حينها)، وعلى رأسها المرحومين الأستاذ عبد الرحمن جرجرة مدير معارف الاتحاد والأستاذ الأستاذ حسن فريجون. في تلك الفترة كان الحس الوطني الثوري والوقومي قد بدأ يأخذ طريقه إلى قلوب وعقول الشباب وخاصة المعلمين. إذ قبل الزيارة قام الأستاذ محسن الهونطب( أطال الله في عمره وشفاه من مرضه) بتدريب طالبين في الصف ؛ أحدهما على إنشاد نشيد وطني حماسي ( المرحوم فضل محسن عبد رحمن العبدلي، إن لم إكن مخطئاً في اسمه الأول) والذي كان يتمتع بصوت شجي وجميل والآخر من قرية بيت عياض( محمد احمد يسلم) وكان ذو نبرات صوت قوي وواضح. ليقرأ، وبحماس، قصيدة أمير الشعراء احمد شوقي(برز الثعلب يوماً في ثياب الواعضينا ومشى في الأرض يهدي ويسب الماكرينا ويقول يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا واطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا" على الوفد الزائر . وفعلاً كان للأستاذ محسن ما أراده عندما زار الضيوف غرفة صفنا.
لقد سُقت هذه الحادثة الخاصة لأدلل على سمات وأساليب يتبعها المستعمرون بصرف النظر عن اختلاف أشكالهم وألوانهم وجنسياتهم.
إن ما حصل ويحصل من تفجيرات وقتل بالعشرات للجنود والمجندين من قبل إرهابيين مفخخين بالفكر الظلامي التكفيري المتخلف، قبل أن يفخخوا أنفسهم بالمواد المتفجرة.
هذه الأعمال الإجرامية، للأسف، سترافق، لبعض الوقت، مسيرة الجنوب والجنوبيين نحو هدفهم المنشود والذي ضحوا من أجله بالغالي والنفيس، والمتمثل في استعادة وطنهم من الأعداء الظاهرين والخفيين.
منذ الوحدة المشؤومة ومحتلو أرضنا وناهبي خيراتها يفخخون مستقبل الجنوب الذي كانوا يدركون أنه لن يبقى تحت احتلالهم طويلاً، ولابد أن ينتفض يوماً عليهم، كما حدث لهم في زمن ليس بالبعيد جداً.
لقد قرأوا التاريخ الجنوبي جيداً وعرفوا أنهم لن ينعموا بالراحة الأبدية فيه، لأسباب هم على معرفة جيدة بها، بل وخبروها عدة مرات عبر تاريخهم. ولذلك هم في كل مرة يغيرون أسلوبهم وجلودهم ليتمكنوا من خداع الجنوبيين، خاصة ضعاف النفوس والإيمان منهم، وكان هدفهم ولا يزال، هو البقاء في نعيم الجنوب أطول فترة ممكنة.
لقد لبس المحتلون هذه المرة ثياب الواعظين الصالحين ليضفوا الشرعية الدينية على احتلالهم للجنوب و، بالتالي، يشرعنوا نهبهم وتملكهم لمقدراته.
لقد فخخوا العقل الجنوبي عندما هيمنوا على تربية وتعليم الأجيال الجنوبية ونشروا وشجعوا ثقافة وفكر التخلف والتطرف.
لقد فخخوا الإقتصاد الجنوبي بنشرهم وتشجيعهم الفساد بمختلف صوره وأشكاله، وزينوا للناس العبث بالمال العام.
لقد فخخوا الأمن بغضهم النظر عن ظواهر النهب والسلب والسرقة للممتلكات العامة، ثم الخاصة. كما شجعوا البلطجة وابتزاز الناس بالقوة.
لقد فخخوا القضاء بالأحكام الجائرة والباطلة وبالتأجيل والمماطلة في النظر في قضايا الناس. وليس أدل على ما قلته عن فساد القضاء مما يررده الشارع في لحج عن أحد قضاتهم الذين جاءوا بهم ليحكموا بشرع الله، والذي قال لأحد المتقاضين عنده عندما عرض عليه مبلغاً من المال كرشوة لم يقتنع به " هذا مش حق قلبة واحدة في النار"
لقد قلت في مقدمة ما كتبته بأن تضحياتنا ستتواصل لفترة من الزمن ندفع خلالها الثمن الغالي من أرواحنا ودمائنا لقاء تحرير أرضنا من أيديهم. وأن هذه الفترة ستطول أو تقصر بالنظر إلى معالجاتنا التي سنتخذها لتفكيك مفخخاتهم في عقول شبابنا، أولاً. وذلك لن يتأتى لنا سريعاً إلا بمعالجة السبب وليس النتيجة، كما نفعل الآن. إذ لن ينتهي الإرهاب بالقبض على الإرهابي ومحاكمته والقصاص منه، بل بتجفيف منابعه وإيقاف ماكنات تفريخه، كما قال أحد شيوخنا الأجلاء.