لا احد يجادل في حقيقة ان الشارع الجنوبي بكامله ملتف حول عنوان رئيسي وعريض اسمه "القضية الجنوبية" ، وهذا العنوان يمثل الإطار العام لما يطالب به الجنوبيون بكافة فئاتهم وتوجهاتهم وانتماءاته ، ومع ذلك فالواقعية تقتضي الإعتراف بأن العنوان الكبير ينطوي ايضا على عناوين أخرى فرعية تتعدد بتعدد المشارب والرؤى والتوجهات في هذا الشارع ، وقد عكس هذا التباين في المفاهيم نفسه على تعدد مماثل في الرؤية لجوهر القضية وأبعادها واهدافها عند قطاعات واسعة منهم : اولا : كونه شعب مسلم فإن كثيرون جدا من ابناءه يؤمنون بأن المسلمون في كل مكان امة واحدة ، وأن المؤمنون أخوة ، وان الحدود التي تفصل بين المسلمين وتفرقهم هي حدود مصطنعة وهم لا يستطيعون ان يتخلوا عن هذه القناعات لأن هذا التخلي ينتقص بنظرهم من دينهم ، لذلك فإن رؤيتهم للقضية يرتبط ارتباطا وثيقا بالالتزام الديني عندهم ، والقضية بهذا المعنى تصبح قضية حقوق وعدالة ومساواة ، وهم لا يقبلون أي تفسير للقضية يتناقض من وجهة نظرهم مع هذا الالتزام . ثانيا : وهناك جنوبيون كثر ممن يعتبر ان الجنوب هو جزء من وطن واحد اسمه اليمن ، وان حل القضية الجنوبية لا يمكن ان يتم الا في اطار حل يشمل المجتمع اليمني على كامل ارضه وشعبه ، وان المشكلة تعود بالأساس الى غياب سيادة القانون والمواطنة المتساوية ، وعندما تنتهي هذه المشكلة سواء من خلال مقترح الفيدرالية والأقاليم او الحكم الذاتي او بأي صورة اخرى تؤدي الى تمكين الجنوبيين من حكم انفسهم وامتلاك ثرواتهم ، فإن الحاجة ستنتفي – من وجهة نظرهم - لرفع شعارات الانفصال او فك الارتباط المسيطرة حاليا على الساحة. ثالثا: وهناك من الجنوبيين من يرى ان حضرموت ليست جزء من اليمن وليست جزء من الجنوب ايضا ، ولكنها منطقة لها خصوصيتها وتم الحاقها عنوة بما يسمى اليمن ( بعد الوحدة) او اليمن الجنوبي (قبل الوحدة) ، بما لا ينسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيا ، وانهم وان كانوا في الوقت الحالي يعتبرون انفسهم جزء من القضية الجنوبية بحكم الأمر الواقع ، الا انهم لاحقا وبعد ان تحقق القضية الجنوبية اهدافها ، سوف يكون لهم قضيتهم الخاصة في اطار البيت الجنوبي . رابعا : وهناك من يؤيد استعادة الدولة او فك الارتباط لكنه يرى ان الظروف الحالية لا تساعد على تحقيق هذا الهدف اليوم ، وان على الجنوبيين الان ان يقبلوا بالممكن ويتركوا مسألة تقرير المصير الى ظروف مواتية اكثر في المستقبل . فهل نكيل لهؤلاء الاتهامات – وهم شرائح واسعة من الجنوبيين - لمجرد انهم يرغبون في التعبير عن اهتمامات وقناعات مغايرة لاهتماماتنا ؟ فتشوا عن هؤلاء وستجدونهم حاضرين في ساحات النضال ، ولا يستطيع احد ان يزايد على دورهم النضالي لنصرة القضية الجنوبية فهم يحملون همها ويتواجدون في الميادين ويقدمون مثلهم مثل غيرهم ما تتطلبه القضية من تضحيات ، ثم بعد ذلك يأتي من يصفهم بأوصاف العملاء والمأجورين الذين يسعون الى شق الصف وبذر الخلاف ؟ مطالبة المختلفين معنا بإلغاء قناعاتهم وايمانهم ورؤاهم أيا كانت بحجة أنه ينتقص من الجهود والطاقات التي يتوجب حشدها لصالح هدف استعادة الدولة او فك الارتباط ، او تخوينهم ورميهم بأقذع الأوصاف والمسميات هو موقف يحمل الكثير من التعالي والنرجسية على الجماهير نفسها، ولا اعتقد ان تبني مثل هذا الطرح يصب في صالح القضية الجنوبية اليوم ، وغدا ، وبعد غد . ان هذا الموقف يستدعي للأسف ذكريات حزينة وصفحات سوداء من تاريخنا وبالذات في الفترة التي تلت نيل الاستقلال عن المستعمر البريطاني ، عندما انفردت الجبهة القومية بالسلطة وفرضت رؤيتها الخاصة على الجميع ، ولم يسمح حينها بالخروج عن هذه الرؤية او حتى انتقادها ، بل واستخدمت العنف بكافة صوره لقمع كل ما عداها من رؤى او قناعات ، معتبرة ان كل من يخرج عن المعتقدات التي تم تبنيها من قبل السلطة الحاكمة هو خائن وعميل ومأجور ، ونتيجة لذلك طال الإبعاد والإقصاء والتصفية الجسدية كل من دارت حوله الشكوك بأن له قناعات أو افكار مختلفة او توجه خارج السياق الذي تم تبنيه . هذا النهج الإقصائي والتخويني في التعامل مع التنوع الثقافي والسياسي داخل المجتمع الواحد وفرض رؤيه واحده عليه، وإجباره على السير وفقا لها ، هو نفسه الذي اوصل الجنوب الى هذا المأزق الكبير الذي نعيشه اليوم والذي يكافح الشعب الجنوبي للخروج منه وكسر حصاره ، ويقدم في سبيل ذلك تضحيات هائلة . فهل من الحكمة تطبيق نفس النهج الذي ثبت لنا علمياً وعملياً خطؤه ؟ وهل نحن عاجزون عن قراءة ما يقدمه لنا التاريخ من دروس ؟ أم ان ذلك يعود الى أن القادة الذين اوصلوا الشعب الجنوبي الى ذلك المأزق التاريخي في الماضي ، هم انفسهم من يقود العمل السياسي للقضية الجنوبية اليوم ، وهم لا يجيدون القيادة الا بالأسلوب الذي اعتادوا وتربوا عليه ؟ اي أسلوب التخوين واحتكار السلطة وفرض الرأي الواحد . العبر المستسقاة من تاريخ الجنوب ومعاناة شعبه ، وتجارب العالم من حولنا ، والمنطق والعقل ، كلها تؤكد ان ضمان وحماية حق عامة الناس في التعبير عن آرائهم وانتماءاتهم وقناعاتهم بحرية وبدون خوف او حكر او قيد ، هو الذي يولد الطاقات الهائلة للشعوب ويفجر ابداعاتها ويمنحها القدرة على تحقيق ما تريد . دعوا الف زهرة تتفتح ، واتركوا الناس يعبرون عن قناعاتهم وأفكارهم دون ان يتسلل الى قلوبهم وعقولهم توجس او رهبه او خوف من اتهامات تلصق بهم من هناك اوهناك ، و لن يسيء ذلك الى القضية الجنوبية أو يخفف من زخمها بأي شكل من الأشكال ، على العكس فإن إتباع مثل هذا النهج سوف يقدم القضية الجنوبية للعالم باعتبارها قضية انسانية واخلاقية تُجِّل الإنسان وتصون حريته وكرامته ، وتؤمن بالقيم العالمية العليا مثل الحرية والديمقراطية وحق الفرد في الاعتقاد والفكر وحقه في التعبير والرأي ، وتذكروا من تاريخنا القريب جدا ان السعي لاحتكار الحقيقة والطهارة والنقاء الثوري ، واطلاق نعوت التخوين والعمالة والارتزاق على كل من يختلف معنا لن يؤدي بالقضية الجنوبية الا الى كارثة مشابهة لتلك التي نعيشها اليوم ..