أرسل إليَّ أخي المغترب في أقصى الخليج يطلب مني أن أروي له كيف مرَّ عامنا الماضي وما الذي اكتسبنا منه وما هي الأحداث الجديرة بالذكر .. فكتبتُ له : مطلع العام حصلتُ على المركز الأول في مسابقة عربية أدبية من بين عدة متسابقين من مختلف أقطار الوطن العربي؛ لنؤكد للجميع أن عدن مكاناً للإبداع في زمن الحرب، وأن التميز لا زال له مكاناً في حياتنا لنبني لعدن مكاناً مرموقاً يليق بها بين الأمم؛ لكن للأسف وجدنا التجاهل واللامبالاة، ولم أحظى ولو بتكريم مصغر من سيادة محافظ العاصمة والمجالس المحلية بعد أن تعرقل سفري لاستلام الجائزة لتعقيدات طرأت مؤخراً. عن ماذا أكتب لك - يا أخي - فالناس هنا يموتون بهدوء وبدون إزعاج .. سأكتب لك عن ما يزيد عن مائة رجلاً نقلهم الإنتحاري من الحياة إلى الموت خلال أسبوعين، كانوا مجتمعين لاستلام مرتباتهم التي انقطعت لأشهر عدة، فمزق الحزام الناسف أجسادهم لتتمزق بعد ذلك أحلام مئات من الأطفال والأرامل، وتنهمر سيول من الدماء والدموع ؛ لتروي أرض قاحلة فتنمو هموم لا عد لها ولا حصر. هل أحدثك عن عمك الذي غادر الحياة دون أن يرى معاشه، وظل يصارع المرض بجسد مرهق وعينين غائرتين تفكر بغذاء أولاده قبل دواء جسده .! أو عن تلك المرأة المسكينة التي انتشت وفرحت بل بدت شابة تحضن الحياة حين علمت أن معاش زوجها حان موعده واستلامه .. هنا كتبت متطلبات عديدة لأشهر مضت في ورقة، ومن ضمن الحاجيات ( عباءة ) انتظرتها طويلاً من زوجها، فجاءها الناعي لينعيها بمقتل مصدر الدخل الوحيد لها والمعيل .! أو أكتب لك عن ذلك الشاب - على أعتاب الثلاثين من عمره - الذي أوشكت ثمار آماله على النضوج، وبدا حلم عش الزوجية يرنو أمامه فلا تفصله عنه غير أيام ليحيل ذلك الإنتحاري زواجه إلى مأتم، ولتخلع فتاة أحلامه ثوب زفافها الموعود، وتلبس ثياب الثكالى قبل أوانها .! المشاهد والصور هذا العام كانت ملطخة بدماء الأبرياء يا أخي، كنا نلتقطها ونحفظها بكل ألم .. لقد فاتك مناظر القتل والخوف وانتظار الجنازة والشعور بالظلم، ولست حزيناً أنك لم تشاهد هذا كله ؛ فالجرائم أكبر مما تتصور. الشيء المحزن في حقيقة الأمر هو غيابك عن مشاهد الصمود الأسطوري الذي وحد الجنوبيين ليحبطوا كل محاولات العدو لإرضاخنا .. نعم .. استطعنا أن نهزم عدونا في الميدان لتهزمنا ذواتنا وأنانية كثيراً منا، فصرنا نختلف في سفاسف الأمور. نظرة منك واحدة لما يدور بين شبابنا في وسائل التواصل الاجتماعي ستعلم كم أشربنا العدو من كؤوس الجهل، وأدخلنا في صراعات عنصرية لا ناقة لنا فيها ولا جمل. نحن في وطن لا يحترم الإنسان - أخي الحبيب - فيه، نحن في بلد لا نعلم فيه الصديق من العدو، ولا نسمع إلا صوت الرصاص .. لا نستغرب أبداً حين يعلو صوت انفجار عنيف .. قد يكون شاب موعوداً بالحور العين كما قيل له، وقد يكون زواج لطفل من أطفال المقاولة .! في وطني اشتبكت الأفراح بالأحزان فلا نفرق بين هذه وتلك، ومع كل هذا سنحتفل بمرور عام ونحن ننقش صمودنا وعزتنا وشجاعتنا في أنصع صفحات التاريخ، ونجدف بأرواحنا وسط بحر من الدماء قاصدين طريقاً للإنتصار.