خلع همومه وقام من فراشه وتقلب أبناؤه الصغار على بطون خاوية ، وسأله صغيرهم بابا هل سيأتي الراتب ؟ قالها ببراءة الأطفال ، فرد عليه أبوه نعم اليوم سنستلم الراتب ، الصغير يعني خلاص ما عاد سنطلب من الجيران ، قال الأب لماذا تقول هذا الكلام ؟ رد الصغير ، لأن أولادهم يقولون علينا طلابين ، وما عندنا راتب ، ولا يعطونا إلا القليل نشتي نشبع ، هزت هذه الكلمات صروح كبرياء الأب ، فقال : من اليوم سيعود الراتب ، ولن تنذلوا للناس ، قالها وهو يحضن أولاده ، وهم فرحين ويرددون بابا سيستلم الراتب وسيشتري لنا دقيق ورز ، ودع الأب أولاده وذهب نحو اللجنة وكله أمل وفرحة غامرة ، أخذ مكانه في الصف وهو يداعب أصحابه ، انتظر طويلاً حتى سمع هاتفاً يقول : الصرف بكرة ، تعالوا بكرة ، تحطمت أحلامه وخارت قواه ، وجلس مذهولاً ناداه أحدهم : الصرف بكرة روح وتعال بكرة ، تحامل على نفسه وقام حاملاً هموم الدنيا وهو يردد ماذا عساني أقول لصغيري ، ماذا سأقول لهم وهم يتدافعون على الباب ، عاد إلى البيت وتدافع الأولاد ليفتحوا له الباب والزوجة قد أعدت المطبخ لاستقبال الراشن الذي غاب طويلاً ، دخل الأب وحضن أولاده ، وهم يلتفتون يميناً ويساراً ، أين الراتب ؟ أين الراشن ؟ رد الأب بكلمات تخالطها عبرات الدنيا بكرة ، قالوا بكرة ، صُعِقت الأم وهي تتمنى ألا تسمع هذه الكلمات ، حتى لا تموت فرحة الأبناء ، جلست الأم مذهولة في مطبخها تفكر في مخرج للأب مع أولاده ، ثم نادت عليهم خلاص خلوا أبوكم يدخل الراتب بكرة إن شاء الله ، دخل الأب وهدأته الزوجة ، وعادت رحلة الأبناء نحو الجيران ، لم ينم الأب تلك الليلة الكئيبة ، ثم ذهب في اليوم الثاني نحو اللجنة وقف في الطابور وهو متوجس من وعود اللجنة فقال أحدهم الراتب بكرة لم يصدق المسكين ما سمعه فلم يتحمل قلبه سؤال أولاده وتدافعهم على الباب ، ترددت في مخيلته كلمات ابنه نشتي نشبع ، فتوقف قلبه . قُرِعَ الباب فتدافع الأبناء من سيفتح لأبيهم أولاً ، فتحوا الباب وإذا بأبيهم ممدد على الأرض ، التفوا حوله وهم يتساءلون : بابا هل استلمت الراتب ؟ والأم ترتجف وتطلب من الله ألا تسمع كلمة بكرة ، أصبحت كلها آذان صاغية لتستمع البشارة ، لم تسمع كلامه ، ولكنها سمعت همهمات كثيرة ، تعالت ضربات قلبها الحزين الجائع ، وهي تقول : انطقها قل بكرة ، قل بعد شهر ، ولكن اسمعني صوتك ، فيكفينا صوتك ، يكفينا حسك بيننا ، وإذا بأحدهم ، يقول : أدخلوه حتى يجهز القبر ، صرخت بكل همومها وأحزانها المكبوتة ، قولوا بكرة ، قولوا بعد شهر قولوا قطعوا راتبه ، ولكن لا تقولوا حتى يجهز قبره ...