في بقعة من هذه الأرض هناك مدينة تقف على مربع الحزن ، مرتعٍ للبؤساء ، مدينة طالما وقفت في وجوه كل الغزاة ،وحاربت ظلم من يحاول أن يمس شموخها، أو يطمس هويتها على مدى التاريخ ، ورغم كل هذا الظلام المطبق على أنفاسها، تأبى إلا أن تتنفس روح الأمل ،وترمي في أصقاع هذا البحر الشاسع، بعضاً مما أثقل كاهلها حينما عجزت في إيجاد من يتحسس مواطن الوجع ،ويرمم هذا الخراب المسكون فوق أنقاضها هي عدن..!
ظلت تنازع لتعيش، لم تسقط في براثين اليأس ولم تزل متمكنة بجذورها في قلب كل من وطأت قدمه على ترابها أو حظي بأن يكون أحد أبنائها الذين ولدوا ونعموا بوفرة العيش فيها ، جميعنا مجمعون على حب هذه البقعة الغالية على قلوبنا مهما تجرعنا فيها من ويلات العذاب ومكابدة العيش..
لكن.. !
لماذا وأمام كل هذا الحب لم تزل رهينة في غياهب الشتات والتفرقة ؟
ظل السؤال مسافراً على مدى ليال في مخيلتي ولم أجد إجابة مقنعة تسد هذا الفراغ المترامي في كل نظرة بؤس ألحظها في جنبات هذه المدينة ، لم يعد هناك متسعاً في عيونهم لمزيداً من الصبر والتحمل، هؤلاء هم كل العابرون على أرصفتها ،الطارقين على أبواب المسؤولين وأصحاب القرار والواقفون على محاط الشقاء ينتظرون قطرة الوقود او تلك الأسطوانة الفارغة المشروخة من وجع التنقل والخيبات.
كل تلك الصورة غدت إعتيادية نلحظها كل يوم ونردد في خلجات أنفسنا "لهم الله" كأقصى مايمكن بعثه بأكفٍ لا تملك من أمرها شيئا .
مضينا نحو جامعتنا متناسين هذا الوجع، ومحاولين رتق مساحة هذه الجروح برؤية هؤلاء النخب في صروح الجامعة بطلابها وأكاديميها ، لأنهم هم وجه الغد المأمول الذي به قد نحوز شرف التغيير لعالم يسوده الإستقرار والحياة الوفيرة. مضت الأيام..!
تحمل هؤلاء صعوبة التنقل بين مراكب المواصلات لإحدى كليات جامعة عدن ، -كلية الهندسة على وجه التحديد- والواقعة في أطراف مدينة الشعب المقطوعة من كل شيء إلا من وفاء كادرها وطلابها الذين يأخذون محاضراتهم، ولأوقات متأخرة ليخرجوا بعد كل هذا الإرهاق فلا يجدوا وسيلة تنقلهم لمساكنهم أو حيث تتوفر لهم وسيلة نقل في الأماكن الزاخرة بالسكان ، تحملوا عناء المشي لمسافات تحت حر الشمس ولم ينقطعوا يوماً عن محاضراتهم ..
واليوم وبعد إرتفاع أسعار المواصلات، بتلك الصورة الخرافية التي تلقوها على مضض ، وقفوا رافضين بعد أن نفدت بهم السبل ، تحملوا عناءٍ لا يمكن لأحد احتماله في مختلف بقاع هذه الأرض، وأبت نفوسهم أن تبلع هذا الغلاء في ظل انقطاع الرواتب ومواطن سكنهم البعيدة ، ولكونهم لا يقبلوا أن يتفضل عليهم أحد بحق مواصلاتهم ، في حين أن من أبسط حقوقهم توفيرها من قبل المعنيين بالقرار ، أو إيجاد حلاً لتدهور هذا الوضع يوماً بعد يوم أمام مرأى ومسمع من كل دول الجوار والعالم أجمع .
سيظل الصبر نضير وجوههم المشرقة كإشراقة الأمل المتبقي في تلك الصروح الجامعية حتى تلوح بوادر الفرج وتعود الحياة في هذه المدينة الموعودة بالمستقبل من جديد .